الثلاثاء, 9 سبتمبر 2025 09:43 PM

أرمينيا: رحلة بين سحر الطبيعة وتعقيدات التاريخ العريق

أرمينيا: رحلة بين سحر الطبيعة وتعقيدات التاريخ العريق

بدأ آرتور، السائق، رحلتنا بحماس واضح، مدركاً أنها زيارتنا الأولى لأرمينيا. لم يترك تفصيلاً إلا وحاول شرحه لنا، مستعيناً برازميغ، الدليل السياحي، لترجمة أفكاره بسبب حاجز اللغة. الازدحام المروري على الطريق من يريفان إلى مغارة ليفون كان العائق الوحيد الذي أزعجه، حيث سعى جاهداً لتجاوزه لكي لا نفوّت الموعد.

أشارت لوسين جيفورجيان، رئيسة لجنة السياحة، إلى أن عدد السياح قد سجل رقماً قياسياً في العام الماضي، حيث بلغ 2.3 مليون سائح، مؤكدة على جهود الحكومة في تطوير السياحة من خلال مشاريع قوانين وخطط تسويقية.

إن ازدحام السير في يريفان ليس مجرد إشارة إلى ضيق طرق المدينة بشوارعها، بل هو دليل على أن العاصمة التي كانت منسية أصبحت وجهة محتملة للمستثمرين والسياح، وفي خطط الملايين من أبنائها المنتشرين حول العالم.

تحتاج هذه الدولة الجبلية الصغيرة جغرافياً والغنية بتاريخها إلى تعريف العالم بنفسها بعيداً عن صورة المآسي التي ارتبطت باسمها. حتى بالنسبة لشخص مثلي قادم من لبنان، حيث يعيش أكثر من 100 ألف أرميني، شعرت بجهل تجاه هذا الوجه الجميل لبلد يتطلع إلى المستقبل بأمل وحذر. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هذا التداخل بين التاريخ والثقافات والحضارات والفظائع هو ما يميز أرمينيا ويجعلها فريدة.

لا يمكن لزائر يريفان إلا أن يشعر بالرهبة أمام تمثال "الأم أرمينيا" المطل على قلب العاصمة. يرمز هذا التمثال الضخم في حديقة النصر، لامرأة تحمل سيفاً مصوباً نحو الغرب، باتجاه تركيا، وخلفها جبال أرارات، إلى فصول من تاريخ البلاد. شُيّد هذا النصب، الذي يمثل الأم الأرمينية المستعدة للدفاع عن عائلتها، عام 1962، ليحل محل تمثال للزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، الذي كان يرمز إلى انتصارات الحرب العالمية الثانية. تروي الحكايات أنه عند إزالة التمثال، سقط على العمال، مما أدى إلى مقتل عدد منهم. ويردد رازميك بابازيان، الدليل السياحي، رواية فكاهية مفادها أن أولئك كانوا "آخر ضحايا ستالين".

لا تزال الهندسة السوفياتية طاغية على يريفان، وتسود عمارة البازلت المشهد. ومع ذلك، تتسلل معالم الحداثة بوضوح إلى الأحياء والشوارع الرئيسية مع مبان عصرية وعلامات تجارية أوروبية منتشرة جنباً إلى جنب مع الصناعات المحلية.

من الواضح أن يريفان تتخلى تدريجياً عن عباءتها السوفياتية، وقد تكثفت هذه النزعة في السنوات الأخيرة، بعد تخلي موسكو عن يريفان في ناغورنو كراباخ. في الشوارع، تراجعت سيارات "اللادا" لصالح سيارات "أوبل" الألمانية والسيارات الأوروبية، وباتت أسماء الشوارع وإشارات المرور تُكتب باللغة الإنجليزية بدلاً من الروسية، بالإضافة إلى الأرمينية.

ومع ذلك، لا يزال الحضور الروسي قوياً في البلاد. فالروسية لا تزال اللغة الثانية، والروس يتقدمون السياح من الجنسيات الأخرى، وخصوصاً بعدما تحولت أرمينيا طريق عبور لهم منذ الحرب الأوكرانية والحصار الذي فُرض على موسكو.

نهاراً تضيق شوارع يريفان بالسيارات، وليلاً يشعل السهر أحياء صارت عنواناً للترفيه. في شارع ساريان شيء من أرصفة أوروبا وسهرات بيروت ونرجيلة القاهرة. وفيه أيضاً حانة "إن فينو" التي تضم مئات أنواع النبيذ الأرمني ومن دول عدة حول العالم.

اكتسبت الحانة شهرة واسعة وصارت محطة للسياح الأجانب. وهي تقع مباشرةً قبالة متحف منزل الفنان مارتيروس ساريان، الذي تُزيّن واجهته فسيفساء خلابة لجبل أرارات.

أكثر ما يلفت في يريفان أن الحياة العصرية التي تتغلغل في شوارعها لم تلغ مكانة متقدمة لتاريخ عريق وإرث غني. تحرص أرمينيا على حماية ذاكرتها وإرثها وتكرّم كبارها بأسماء شوارعها من ميزروب ماشتوت، مؤلف الأبجدية الأرمينية في القرن الخامس، وخاتشادور أبوفيان الكاتب الأرميني من أوائل القرن التاسع عشر إلى القائد العسكري ورئيس الوزراء الأسبق فازغين ساركيسان. وحتى عملتها تحمل أسماء فنانين وشعراء وشخصيات تركوا بصمة في تاريخ هذا الشعب. وفي متحف المخطوطات "ماتنادران" الذي يبدو أشبه بقلعة تحرسها "الأم أرمينيا"، تحفظ يريفان كنوز "أرمينيا الكبرى"، بما فيها مخطوطة من أرتساخ.

ويؤوي المتحف مخطوطات نادرة مقدمة من دول كثيرة حول العالم.

وكان نائب وزير خارجية أرمينيا فاهان كوستانيان قد أعلن خلال المؤتمر الدولي الذي عقد في الأمم المتحدة برئاسة مشتركة من فرنسا والسعودية، أنه سيتم إيواء التراث الثقافي الفلسطيني المهدد بالخطر مؤقتاً في متحف ماتنادران بأرمينيا. ويشكل مجمع كاسكيد معلماً رئيسياً في المدينة، بتصميمه الغريب، وهو مجمع من الشلالات والمعارض والسلالم المؤدية إلى حديقة بُنيت للاحتفال بانتصار ستالين على الفاشية، وأمامه نصبٌ تذكاريٌّ لألكسندر تامانيان (1878-1936) الذي كان في وقتٍ من الأوقات المهندس المعماريَّ الرئيسيَّ للمدينة.

زيارة أرمينيا ليست رحلة إلى طبيعة آسرة فحسب، بل أيضاً إلى تاريخ معقد تشكل عبر قرون من الغزوات والتحولات. فقد تعاقبت على هذه الأرض حضارات كبرى، من الحيثيين والمغول إلى العثمانيين والروس، تاركة وراءها إرثاً متنوعاً يلمسه الزائر في العمارة الحجرية، المتاحف، والمواقع الأثرية التي تجعل من البلاد وجهة استثنائية لعشاق التاريخ.

وأرمينيا أقدم دولة مسيحية على وجه الأرض. في عاصمتها وأقاليمها تتنافس 4000 كنيسة ودير وكاتدرائية، تتقدمها كنيسة إيتشمياتزين المعروفة بأنها أول كنيسة في العالم. ومن لا يزورها في أرمينيا، كأنه ذهب إلى روما دون زيارة كاتدرائية القديس بطرس.

وفي أقصى الجنوب، يقبع دير تاتيف جوهرة العمارة الأرمنية في القرون الوسطى، وكان مركزاً سياسياً وتعليمياً استراتيجياً. ضمت مكتبته أكثر من 10,000 مخطوطة أحرقها المغول ودمروها في ليلة واحدة. وبات تلفريك "تاتيفير" وسيلة سهلة للوصول إلى هذا الدير القابع وسط واد خلاب.

وشملت جولتنا أيضاً دير نورافانك من القرن الثالث عشر ودير هاغاردزين من القرن العاشر الذي رمّمه حاكم الشارقة الشيخ سلطان القاسمي بعدما كان مهدداً بالانهيار نتيجة الإهمال والحروب والزلازل.

وإضافة إلى الكنائس، تحافظ أرمينيا، على مسافة 25 كيلومتراً من يريفان، على تحفة معمارية تعتبر المعبد الوثني الوحيد الذي لا يزال قائماً في دول الاتحاد السوفياتي السابق. فقد شيّد معبد غارني في القرن الأول الميلادي كمعبد لإله الشمس مير، وتعتبر الصورة أمامه أجمل تذكار من تلك البلاد.

كثيرة هي الكنوز المخفية في أرمينيا، ولكن سيمفونية الصخور (Symphony of Stones)، الحرف الجبلي المحفور بفعل رياح نقشت عليه على مر السنين رسوماً تشبه مفاتيح البيانو، قد تُعتبر من العجائب لشدة جمالها.

أرمينيا، بلاد التاريخ هي أرض الكرم أيضاً، ولا تكتمل زيارتها بلا حلويات الغاتا وخبز لافاش المدرج على لائحة اليونسكو للتراث غير المادي.

وللسياحة العلاجية مكانة مميزة، وتستأثر جرموك في جنوب البلاد بمكانة متقدمة في هذا الشأن. ينعش الصنوبر هواء هذه البلدة الواقعة على ارتفاع أكثر من 2000 متر عن سطح البحر، وترتفع حرارة ينابيعها الطبيعية الوفيرة إلى 50 درجة مئوية. فيها منتجع عصري يقدم للضيوف علاجاتٍ طبيةً مُخصصةً مع أحدث الآلات الأوروبية والفرق المتخصصة. أثرت الحرب في ناغورنو كراباخ على الحركة في جرموك، وها هي اليوم كما أرمينيا كلها تتطلع إلى السلام للانتعاش مجدداً.

أغادر أرمينيا مع صور جميلة كثيرة ستبقى في مخيلتي، وتذكار من رازميك هو حرف الميم بالأرمينية، سيذكرني دائماً أنه في تلك الرقعة من القوقاز بلد واعد وشعب مثابر يتطلع الى المستقبل بأمل كبير.

مشاركة المقال: