عنب بلدي – أمير حقوق
"والدي متوفى، وأسكن مع والدتي وإخوتي بمنزل زوج والدتي، الذي يجبرنا على التسول، لأنه عاجز عن العمل بعد تعرضه لحادث سير"، قالت الطفلة غزل التي تتسول في حي البرامكة. تبلغ غزل 11 عامًا، وتجمع يوميًا ما يقارب بين 20 و50 ألف ليرة سورية، وأحيانًا أكثر، بحسب ما قالته لعنب بلدي، وهذا المبلغ تعطيه لزوج والدتها بغية تأمين مصروف المنزل، و"إلا سيوبخني ويهددني بالنوم خارج المنزل".
تشهد شوارع مدينة دمشق زيادة بأعداد المتسولين في السنوات الأخيرة نتيجة الأوضاع المعيشية، إذ صارت ظاهرة "التسول" ملجأ لتأمين لقمة العيش للبعض، ومهنة وتجارة مربحة للبعض الآخر.
مطالب بضبط المتسولين
"أبو توفيق"، رجل سبعيني لجأ للتسول لتأمين سعر دوائه، بعد توقف الجمعيات الخيرية عن توفيره، ولشراء حاجاته الأساسية، بعد فقدانه لعمله وابنه المعيل. قال الرجل الذي يقف أمام جامع "الأكرم" في حي المزة، لعنب بلدي، إن الظروف المعيشية الصعبة أرهقت الأهالي وأجبرتهم على التسول أو على ممارسة مهن أخرى، قائلًا، "لا أحب وقوفي عند الجامع وانتظار فاعلي الخير، لكن لا خيار آخر لي".
عدد من المارة التقتهم عنب بلدي اشتكوا من إلحاح بعض المتسولين عليهم للحصول على المال. ويعتقد كثير من المارة أن أغلبية الأطفال وكبار السن يمتهنون التسول وليسوا بحاجة، أو أنهم تابعون لأشخاص ينظمون عملهم، بالمقابل فإن عددًا لا بأس به من المتسولين صادقون وفي حالة من العوز الشديد.
وطالب من قابلتهم عنب بلدي بضبط حالات التسول، والتمييز بين من يتبع لجماعات أو لأشخاص يتخذون التسول مهنة لهم، ومعاملتهم قانونيًا، وبين من لديه دوافع معيشية حقًا ومعالجة مشكلاته على أرض الواقع.
مراكز غير فعالة
مدير الشؤون الاجتماعية والعمل في دمشق، محمود الخطيب، قال لعنب بلدي، إن ظاهرة التسول صارت مزعجة منذ عام 2011، وزادت في الفترة الأخيرة وخاصة في شوارع دمشق، ولهذا تشغل الظاهرة أولوية بعمل المديرية.
وأجرت المديرية ورشة عمل خاصة بـ"التسول"، بحسب الخطيب، وأشار إلى أنه ضمن هذه الورشة تبين أن مراكز مكافحة التسول غير فعالة بالشكل المطلوب، كمركز تأهيل وتشغيل المتسولين بالكسوة، إذ لا يصلح لأن يكون مركزًا للمتسولين بل أقرب إلى السجن.
وأوضح أنه لمعالجة الظاهرة بشكل جدي يجب أن تؤمّن مراكز مخصصة ومعدّة بالشكل الأمثل للمتسولين، وبالتالي فإن تهيئة البنية التحتية للمراكز من أهم الإجراءات لاستقبال المتسولين بالشكل المناسب.
العمل على تأهيل مركز المتسولين بالكسوة بدأ، بحسب الخطيب، وذلك بهدف إعادته لوضعه الطبيعي كمركز تأهيل وتشغيل المتسولين، لتأمين خروجهم من المركز كأشخاص أسوياء.
كما تنسق المديرية مع جمعيات متخصصة، كـ"جمعية حقوق الطفل"، وجمعية "دفا"، لرصد واقعها وتوسيع عملها لاستيعاب عدد أكبر من المتسولين.
هذه الجمعيات تعنى بالمتسولين دون 18 عامًا، للجنسين، أما مركز الكسوة فيعنى بمن هم فوق 18 عامًا.
التعامل مع كل حالة على حدة
أغلبية المتسولين في مدينة دمشق من فئة الأطفال، وتكثر تجمعاتهم في الأماكن العامة، وخاصة في البرامكة وتحت جسر الثورة وكراج العباسيين وباب توما وفي منطقة الصناعة.
وشرح مدير الشؤون الاجتماعية والعمل بدمشق، محمود الخطيب، أن قضايا جميع الفئات العمرية ستعالج، لضمان حل الظاهرة ومكافحتها وليس تخفيفها، مشيرًا إلى أن مكافحة الظاهرة بحاجة للتعاون مع وزارتي الداخلية والعدل.
وسيتم التعامل مع الحالات كل على حدة، فالتعامل مع حالات التشرد يختلف عن التعامل مع حالات المسنين، ويختلف عن التعامل مع حالات التسول.
كما يختلف التعامل إن كانت حالات منظمة ترعى من قبل جهات معنية، أو إن كانت دوافعها سوء الوضع المعيشي، أو حالات خاصة.
الجهات أو الأشخاص الذين يشغّلون أكثر من 20 طفلًا بالتسول سيعاملون وفق قانون التسول، بالتعاون مع وزارتي الداخلية والعدل، وهذا ملف ضخم، معالجته تتطلب وقتًا طويلًا وعملًا مستمرًا.
الظاهرة قانونيًا
شغلت ظاهرة "التسول" القانون السوري، ورغم هذا لم تسعف بنوده في الحد منها، بالتوازي مع غياب تنفيذ الإجراءات القانونية تجاه المتسولين.
المحامي رامي الخيّر، قال لعنب بلدي، إن القانون السوري عاقب التسول وكل ما ينطوي عليه من جرائم، وعقوبة التسول وفق القانون السوري الحبس ويتراوح هذا الجرم بين المخالفة والجنحة، وغالبًا يكون جنحة.
أما الأشخاص الذين يمتهنون التسول ويوظفون الأطفال وغيرهم ليتسولوا وما إلى ذلك، فتطبق عليهم جرائم الاتجار بالأشخاص، والعقوبة تتحول من جنحة إلى جناية والعقوبة بالطبع أشد.
وتتعدى الآثار الاجتماعية للضائقة الاقتصادية التي تشهدها سوريا، بحسب ما قاله أستاذ علم الاجتماع في دمشق طلال مصطفى في تقرير سابق لعنب بلدي، إلى خيارات صعبة كعمالة الأطفال والتسول، وبطبيعة الحال فإن هذه الأمور مجتمعة ستؤدي حتمًا إلى انعدام الاستقرار الأمني، الذي سيضفي نوعًا من "انعدام الأفق والأمل بالمستقبل والإحباط واليأس" وصولًا إلى انتشار الاضطرابات النفسية في المجتمع وخاصة الاكتئاب.
برنامج الأغذية العالمي كشف أن 12.9 مليون شخص يعانون انعدام الأمن الغذائي في سوريا عام 2025، وأن مليوني شخص تلقوا الدعم من برنامج الأغذية العالمي في عام 2024.
وفي 20 من شباط الماضي، أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقريرًا، قدّر فيه أن سوريا بحاجة إلى أكثر من 50 عامًا على الأقل، لاستعادة المستويات الاقتصادية للبلاد في مرحلة ما قبل الحرب في حال حققت نموًا قويًا.
وبحسب التقرير، فإن معدل الفقر ارتفع من 33% قبل الحرب إلى 90% حاليًا، بينما بلغت نسبة الفقر المدقع 66%.