يثير سؤالًا في أذهان الكثيرين، سواء من عامة الناس أو من السياسيين، سؤالًا غالبًا ما يبقى دون إجابة شافية بسبب الخلط المتعمد أو غير المتعمد بين مفهومي الدولة والسلطة. هذا السؤال هو: هل يمكن فصل مصير الحاكم عن مصير الدولة الوطن؟ غالبًا ما تكون الإجابة بالنفي عندما تكون السلطة استبدادية، حيث تقوم السلطة الحاكمة باغتيال المصلحة العامة من خلال دمج مصالحها الآنية في صميم مؤسسات الدولة الدائمة. هذه العملية الممنهجة ليست مجرد فساد إداري عابر، بل هي تفكيك منهجي لبنية الدولة القانونية، مما يؤدي إلى نتائج وخيمة على المدى الطويل. هذا التحليل يتعمق في آليات هذا الدمج الفاسد وتداعياته الاجتماعية والسياسية العميقة.
أولًا: كيف تستحوذ السلطة على مقاليد الدولة؟
تعتمد السلطة المستبدة على مجموعة متكاملة من الأدوات لتحقيق هذا الاندماج القسري، وتحويل أجهزة الدولة من خادمة للشعب إلى خادمة للحاكم، وذلك من خلال:
- السيطرة على الخطاب وتشويه المصطلحات: يرتكز هذا الدمج في الأساس على الهيمنة على الوعي العام، حيث يتم تشويه لغة الخطاب والإعلام ببراعة. على سبيل المثال، يُروَّج لمفهوم أن "الوطنية" تعني الولاء الأعمى للسلطة الحاكمة وشخص القائد، بينما تُصوَّر "المعارضة" وكأنها مرادف لـ"الخيانة" أو "التآمر على الوطن". بالإضافة إلى ذلك، تُحوَّل وسائل الإعلام الرسمية والخاصة إلى أبواق دعائية للسلطة، فتصبح أداة لتعبئة الجماهير وتبرير كل قرار حكومي، بينما تُشوَّه صورة أي صوت نقدي. ونتيجة لذلك، يفقد الإعلام دوره كسلطة رابعة للرقابة ويصبح مجرد جهاز توجيه.
- تقويض وتصفية المؤسسات الرقابية: تُعدّ المؤسسات الدستورية الحامية للقانون هي الهدف الثاني. من هنا تتدخل السلطة التنفيذية في التعيينات القضائية وتُمرِّر تشريعات تُخضِع القضاء لهيمنتها المباشرة. بدلًا من أن يظل القضاء حاميًا للدستور والحريات، يتحول إلى أداة طيّعة لتمرير سياسات السلطة وتجريم معارضيها. وفي السياق ذاته، يُشلّ البرلمان، حيث يتم تحويل السلطة التشريعية إلى مجرد "ختم مطاطي" يمرر قرارات السلطة التنفيذية دون نقاش أو مساءلة حقيقية. وهكذا ينسلخ البرلمان من دوره الرقابي ويصبح جزءًا لا يتجزأ من جهاز السلطة الحاكمة.
- تأميم الموارد وتوجيهها للمصالح الخاصة: يُشكّل الفساد المؤسسي العمود الفقري لديمومة هذا الاندماج. في هذا الصدد، يتم توجيه الموارد المالية والاقتصادية للدولة، بما في ذلك المشاريع الكبرى والمناقصات والتعيينات، لخدمة دائرة ضيقة من المقربين والموالين (مثل رجال أعمال موالين أو عائلات نافذة). هذا التحويل يُحوِّل المال العام من أداة للتنمية إلى أداة لتمويل البقاء السياسي للسلطة. علاوة على ذلك، يتم بناء شبكة واسعة من الولاءات تُعرف بـ"التشبيك" داخل أجهزة الدولة المدنية والأمنية، حيث تُمنح المناصب والترقيات بناء على الولاء الشخصي بدلًا من الكفاءة والجدارة، مما يُسمّم الهياكل الإدارية للدولة.
ثانيًا: التداعيات الكارثية على البنية الاجتماعية والسياسية
لا تتوقف تداعيات خلط السلطة بالدولة على المؤسسات وحدها، بل تمتد لتضرب البنية الاجتماعية والسياسية في الصميم، مُخلِّفة وراءها دولة ضعيفة ومجتمعًا مُفككًا، وذلك من خلال:
- تدمير ثقافة المواطنة والمساءلة: يؤدي غياب المساءلة إلى انعدام الثقة العامة، إذ يفقد المواطن إيمانه بأن الدولة كيان محايد يخدم الجميع. نتيجة لذلك، يتراجع مفهوم الواجب الوطني إلى مجرد الامتثال والانصياع خوفًا من العقاب، بدلًا من أن يكون مشاركة فعالة واعية. ويُضاف إلى ذلك ظهور "المواطن المنفصل" الذي يعتزل الشأن العام مدركًا أن صوته لا يُحدث فرقًا وأن القرارات تُتخذ في الدوائر المغلقة، مما يقلص بشدة من المشاركة السياسية والمدنية.
- زيادة احتمالية العنف السياسي وعدم الاستقرار: يُشكل إغلاق قنوات التعبير السلمي أكبر خطر على الاستقرار. فعندما يتم تجميد الحياة السياسية وتُغلق قنوات التعبير المشروعة (كالانتخابات الحرة والصحافة المعارضة والاحتجاجات السلمية)، تصبح القوة والعنف هي الوسيلة الوحيدة المتبقية للتعبير عن المطالب أو إحداث التغيير. بالإضافة إلى ذلك، تنشأ أزمة انتقال السلطة، فنظرًا لأن السلطة تُصوِّر نفسها مرادفة للدولة، فإن رحيلها (سواء بالوفاة أو الانقلاب أو الثورة) يُعتبر تهديدًا وجوديًا للدولة ذاتها، مما يزيد بشكل كبير من احتمالية الصراعات الداخلية والحروب الأهلية عند أي محاولة لتغيير الحاكم. لقد شهدت تجارب محلية وإقليمية عديدة كيف أن محاولات الانفصال الفجائي للسلطة عن الدولة فجَّرت صراعات طويلة الأمد.
- التدهور الاقتصادي والثقافي: من الناحية الاقتصادية، يُستخدم الاقتصاد لدعم بقاء السلطة لا لتنمية المجتمع، ولهذا تُعطى الامتيازات لشركات معينة، مما يُنشئ اقتصادًا ريعيًا غير تنافسي يعوق الابتكار ويزيد من البطالة. وهذا ما يؤكد أن الاستبداد هو العدو الأول للنمو المستدام. وأخيرًا، سيمتد الخوف من النقد إلى مجالات الفن والثقافة والأكاديميا، وتُفرض رقابة ذاتية خانقة وتصبح الأفكار التي لا تروق للسلطة مُعرَّضة للقمع، مُجفِّفة بذلك منابع الإبداع ومُؤدية إلى تدهور في الإنتاج الثقافي والعلمي للمجتمع بأكمله.
إن خلط السلطة بمؤسسات الدولة هو في جوهره اغتصاب ممنهج للمصلحة العامة، بل إنه يضع المصالح الخاصة للشريحة الحاكمة فوق مصلحة الأمة بأكملها. وهذا المسار الخطر لا يقوض شرعية السلطة الحاكمة فحسب، بل يُضعف الدولة بعمق في عيون مواطنيها والمجتمع الدولي ويدفع المجتمع بثبات نحو حافة الاستبداد والانهيار المؤسسي. وللمضي قدمًا واستعادة عافية الدولة، يجب العمل على ترسيخ مبدأ الحياد المؤسسي، أي إعادة بناء المؤسسات الرقابية والقضائية والتشريعية لتكون محايدة وخادمة للدستور والقانون فقط، لا خادمة للشخص الحاكم. إن الطريق نحو الاستقرار الحقيقي لا يمر عبر تعزيز سلطة فرد، بل عبر تعزيز سلطة القانون وجعل الدولة ملكًا مشتركًا لجميع مواطنيها، فقط عندها يمكن للأمة أن تنطلق نحو مستقبل تستحقه.