على وقع حماوة الحرب الروسية في الميدان الأوكراني، اعتبر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أن نظيره الروسي فلاديمير بوتين "يلعب بالنار". ورغم وعود ترامب السابقة، لم يتحقق السلام في الأراضي الأوكرانية.
وسط أصوات الصواريخ، برزت مبادرة البابا الجديد لاوون الرابع عشر، معلناً استعداد الفاتيكان لاستضافة مفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، وهي خطوة لاقت ترحيباً أميركياً وأوروبياً.
وأكّد وزير الخارجية الأوكراني أندره سيبيا أن زيلينسكي يؤيّد إجراء محادثات سلام في الفاتيكان، لكن موقف موسكو لم يكن مشجعاً. فما هي خلفيات هذا القرار؟
بعد أسابيع من اختياره البابا الـ267 للكنيسة الكاثوليكية، أعلن لاوون الرابع عشر أن الفاتيكان يمكن أن يلعب دور الوسيط في النزاعات العالمية، قائلاً: "الفاتيكان مستعد دائماً للمساعدة في جمع الأعداء وجهاً لوجه، للتحدّث مع بعضهم البعض، حتّى تتمكّن الشعوب في كل مكان مرّة أخرى من استعادة الأمل واستعادة الكرامة التي تستحقّها، وهي كرامة السلام".
رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، أكّدت أن البابا أعرب لها عن جهوز الفاتيكان لاستضافة المحادثات، كاشفة أنّه "مستعد لمناقشة السلام بين الطرفين في الفاتيكان".
وهذا ما أكّده الكاردينال بييترو بارولين، إذ لفت إلى أن البابا "يعتزم توفير الفاتيكان كمكان محايد ومحمِي للقاء مباشر بين الجانبين، إذا لزم الأمر".
بالنسبة إلى الرئيس الأميركي، "لا مكان أفضل من الفاتيكان لاستضافة المفاوضات". وتفيد معلومات بأن ميلوني تقود جهود التحضير لانعقاد جولة جديدة من المفاوضات في الفاتيكان منتصف حزيران/يونيو المقبل.
تدعم أوروبا خيار الفاتيكان كوسيط، لكونه لا ينتمي إلى أي تكتّل سياسي وعسكري، ما يعزّز دور القارّة الأوروبية في الديبلوماسية الدولية ويخفّف من تأثير التدخّل الخارجي في ملف معقّد كأوكرانيا.
في رد مباشر على العرض الفاتيكاني، اعتبر وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف أنّه "سيكون من غير اللائق كثيراً بالنسبة إلى دول أرثوذكسية، أن تناقش على أرض كاثوليكية مسائل تتعلّق بإزالة الأسباب الجذرية للصراع... أعتقد أنّه لن يكون من المريح للفاتيكان نفسه استقبال وفود من دولتين أرثوذكسيتين في ظل هذه الظروف"، مشيراً إلى أنّ أحد الأسباب الجذرية للصراع هو مسار كييف نحو "تدمير الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية".
وعندما سُئل الكرملين عن الفكرة المطروحة، رأى أن مكان انعقاد المحادثات "لا يمكن أن يقرّره طرف واحد ويجب أن يحظى بموافقة الجانبين".
تكثر التساؤلات عن استبعاد موسكو الفاتيكان من لائحة الدول المضيفة للمفاوضات، إذ تُعرقل أسباب عدّة هذه الخطوة أبرزها ديني وسياسي.
إنّ حذر موسكو من وساطة الفاتيكان موجود قبل البابا لاوون، وتعود جذوره إلى الفتور الطويل الأمد بين الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والكنيسة الكاثوليكية.
يعود تاريخ التوتّر إلى الانشقاق الكبير عام 1054، عندما انقسمت المسيحية إلى الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية.
في السياسة، تتحكّم الجغرافيا بقرار رفض موسكو طرح الفاتيكان، فهو مقر الكنيسة الكاثوليكية الذي تحدّه إيطاليا، العضو في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، والتي دعمت أوكرانيا وفرضت عقوبات على روسيا. ويواجه المسؤولون الروس قيوداً تمنعهم من السفر إلى جيرانهم الأوروبيين، بالإضافة إلى إلغاء الرحلات الجوّية المباشرة بين موسكو والفاتيكان بعد بدء الحرب في 24 شباط/ فبراير 2022.
إلى ذلك، لفتت صحيفة "واشنطن بوست" إلى أنّه على رغم أن معاهدة لاتيران لعام 1929 تضمن المرور الآمن للبعثات الديبلوماسية إلى الفاتيكان، إلّا أنّ هناك شكوكاً بشأن ما إذا كانت تنطبق على المسؤولين الكبار مثل بوتين.
بين الحجج الدينية والسياسية، سحبت موسكو بِساط المفاوضات من الفاتيكان على رغم حياده المعترف به. وقد كانت للبابا فرنسيس محاولة في 27 حزيران/يونيو 2023 يوم أرسل الكاردينال ماتيو زوبي إلى موسكو وكييف "للتشجيع على مبادرات إنسانيّة يمكنها المساهمة في حل الأزمة المأسوية وإيجاد طرق لتحقيق سلام عادل".
يشهد التاريخ على وساطات الفاتيكان العلنية منها والسرّية، أبرزها إنهاء الخلاف الحدودي بين الأرجنتين وتشيلي عام 1978، إعادة العلاقات الديبلوماسية بين كوبا والولايات المتحدة بعد قطيعة دامت أكثر من 50 عاماً عام 2014، دعم محادثات السلام بين الفصائل المتنازعة في جنوب السودان، إذ استضاف البابا فرنسيس لقاء روحياً لقادة البلاد في 2019 وقبّل أقدامهم لحثّهم على المصالحة.
تُعد المبادرة تحدّياً ديبلوماسياً في بداية حبرية البابا لاوون وفرصة لاختبار قيادته. ولكن يبقى السؤال: ما الضمانات التي تريدها روسيا لقبول هذا الطرح؟