“ما عم بشتغل شي قاعدة بهالبيت بدون شغل”، ترد “فدوى” 45 عاماً بهذه العبارة بمجرد أن سألتها ماذا تعملين بالحياة؟ في مجتمعنا السوري، من المستحيل أن أتخيل وجود امرأة “قاعدة بالبيت”، ما أثار فضولي أكثر هل حقاً هناك من تقضي يومها بلا إنتاج؟ أم أن ما تفعله لا يعتبر على مستوى المجتمع “عمل” يستحق الاعتراف؟
يبدأ نهار “فدوى” 45 عاماً عند السابعة صباحاً، وتقضي يومها بإعداد الطعام وترتيب المنزل، كذلك مساعدة أبنائها بالدراسة، وبالكاد تحصل خلال النهار كله على ساعتين كاملتين يكونان ملكاً لها دون أن تنشغل في الترتيب أو التنظيف دون مساعدة من أحد، كما تقول لـ”سناك سوري”، مضيفة أنها تتمنى لو استطاعت الحصول على أي خارج المنزل مدفوع الأجر لتشعر ببعض الاستقلالية المادية دون أن تضطر لطلب ثمن احتياجاتها من زوجها.
في مجتمع تغلب عليه الذكورية، قد يُفهم عدم قدرة “فدوى” على إشراك زوجها في الأعمال المنزلية، لكن ما لا يمكن تبريره هو غياب ثقافة إشراك الأبناء، ذكوراً وإناثاً، في هذه الأعمال، لما لذلك من أثر إيجابي مزدوج سواء في تخفيف العبء عنها، أو تعليم الأطفال الاستقلال والاعتماد على الذات منذ الصغر.
في الواقع، لا أحد يملك رفاهية أن “لا يعمل” في هذه البلاد، لكن المشكلة أن عمل النساء، مهما كان شاقاً لا يحتسب عملاً إلا إذا اختتم بتوقيع مدير أو مديرة على ورقة رسمية!
تشير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية إلى أن النساء في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يقضين وقتاً في الأعمال المنزلية والرعاية غير المدفوعة يزيد بمقدار 5.9 مرات عما يقضيه الرجال، وهي من أعلى النسب المسجلة عالمياً.
هذا التفاوت يعتبر أحد العوامل الهيكلية التي تساهم بتكريس الفجوات الجندرية بسوق العمل، ويقيّد قدرة النساء في التفرغ للوظائف المدفوعة، كما أن النساء بالعديد من المجتمعات يُمنعن من مزاولة أعمال مدفوعة ليتفرغن للاهتمام بالأب أو الأم وحتى العائلة لاحقاً بعد الزواج.
“فدوى” ليست حالة فردية، هي نموذج مُتكرّر لنساء كثيرات يحملن عبء المنزل والرعاية والإنتاج اليومي وحتى الأعمال الزراعية سواء بالمساعدة أو القيام بها بالكامل في المجتمعات الزراعية، دون أن يصفن ما يقمن به بـ”العمل”، لا لأنّه لا يتطلب جهدا، بل لأن لا أحد أخبرهن من قبل أن ما يفعلنه يستحق أن يحتسب.
وفق التصنيفات المجتمعية، توصف معظم النساء اللواتي لا يمتلكن عملاً مأجوراً بربات المنازل، في تجاهل واضح للحقيقة المعقدة، معظمهنّ يعملن لساعات طويلة في الرعاية والأعمال المنزلية وتربية الأطفال، وحتى في الزراعة بالمجتمعات الريفية، ومع ذلك لا يحصلن على أي اعتراف قانوني أو اقتصادي يضمنّ من خلاله الحصول على حقوقهنّ.
المشكلة الأكثر الخطورة، أن معظم النساء يذهبن مع نظرة المجتمع، ولا يرين في الجهد الذي يبذلنه عملاً حقيقياً، تعزيز هذه النظرة نابع من رؤية المجتمع ومن عدم حصولها على مال لقاء عملها، والأهم أنه عمل لا ترى فيه ذاتها، فقط ولدت وكبرت عليه دون أن تتوقف لسؤال نفسها عن ماهيته، أو حتى لم يُسمح لها السؤال!
ماذا لو وجد قانون يُلزم الرجل بمشاركة ممتلكاته مع الزوجة على أساس الشراكة لا التوظيف؟ وبالمناسبة هو قانون موجود بالعديد من الدول من بينها تركيا، نعم سيبدو مستهجناً جداً، وقد أتلقى المزيد من الشتائم أو السخرية عليه، أدرك هذا، لكن الرد الحقيقي يكمن في قصة “غالية” 41 عاماً، التي وصلت ورقة طلاقها لباب منزل أسرتها، وتُركت مع طفلة صغيرة لم تكمل عامها الأول بعد بلا سند أو نقود أو حقوق!
حدث ذلك قبل نحو 8 سنوات، حين اختلفت “غالية” مع زوجها لكثرة خياناته لها، فقررت العودة لمنزل أهلها معتقدة أنها بذلك ستلقنه درساً وكان عمر طفلتها أقل من شهرين، لم يكترث بها أرسل إليها أخوه يطلب منها العودة فرفضت، ثم تركها وبدأ ترتيبات حفل زواجه الثاني، تاركاً زوجته الأولى التي طلبت الطلاق وتجاهلها، ولولا إصرار زوجته الثانية على إتمام الطلاق كشرط على إتمام زواجهما لما كان طلّق “غالية”.
حظيت الأم بمبلغ 500 ألف ليرة كتعويض رسمي بعد، ونفقة شهرية لطفلتها بقيمة 5000 ليرة رفعت لاحقاً إلى 15 ألف ليرة، ولم يبادر لرؤية طفلته أو السؤال عنها منذ يوم الطلاق وحتى الآن.
“غالية” تعيش اليوم مع طفلتها بمنزل والديها، تقوم بأعمال المنزل وتساعد بالأعمال الزراعية الكثيرة، ومع ذلك تشعر بأنها مع طفلتها “عالة” على والديها، لتعود وتقع بنفس المعضلة، الأعمال غير المرئية للمجتمع ليست مأجورة.
لو أن القانون يتعامل مع الأعمال المنزلية كأعمال مأجورة، لم يكن حق “غالية” ليضيع مع زوجها على الأقل معنوياً، ولم تكن لتشعر بأنها “عالة” على والديها، ولو أن القانون ينصف النساء عند الطلاق لما كانت الأم تعيش اليوم على نفقة والديها لغياب فرص العمل المأجور أمامها لكن هذا موضوع آخر لا سبيل للخوض فيه الآن.
وتظهر دراسة نشرتها رابطة النساء السوريات عام 2008، وعدلت عليها بعد صدور دستور 2012، أن الأعمال المنزلية مثل الطهي، التنظيف، والرعاية، تقصى من قوانين العمل والتأمينات، ما يجعل النساء عرضة للفقدان التام للدخل أو الحقوق في حال الطلاق أو الترمل أو التقدم في السن، وتُبرز الدراسة أن هذا الإنكار المؤسسي لجهد النساء في المجال المنزلي لا يضعف فقط موقعهن الاقتصادي، بل يرسخ تبعيتهن داخل الأسرة والمجتمع.
وتقول الباحثة والناشطة النسوية، “سوسن زكزك” لـ”سناك سوري”، إنه وفقاً للدراسة التي شاركت فيها فإن المرأة تقضي نحو 7 ساعات يومياً في الأعمال المنزلية، مشيرة أن المرأة بذلك توفر أثمان الخدمات التي تقدمها في المنزل، فيما لو تم شراء تلك الخدمات من السوق مثل الطبخ والتنظيف وغيرها.
وتضيف لـ”سناك سوري” أن الأزهر في مصر، تدارك هذا الموضوع بهدف منح المرأة تعويضات عند الطلاق مسمياً إياها “حق كد السعاية” انطلاقاً من الآية القرآنية: “أَن لَّيْس للإِنسان إِلاَّ ما سعى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سوف يُرَى”.
وترى الناشطة النسوية أن الخيار الأكثر منطقية بالنسبة لسوريا، هو القانون في تونس الذي يخيّر الزوجين عند الزواج، بين حساب مشترك يتقاسمانه عند الطلاق أو الوفاة، وبين حسابين منفصلين.
في الواقع، لا أحد يملك رفاهية أن “لا يعمل” في هذه البلاد، لكن المشكلة أن عمل النساء، مهما كان شاقاً لا يحتسب عملاً إلا إذا اختتم بتوقيع مدير أو مديرة على ورقة رسمية!
مثلاً هناك النساء اللواتي يقمن بالأعمال الزراعية إلى جانب رعاية الأبناء وأعمال المنزل، يساعدن في الزرع والحصاد، أو يستثمرن المساحات الفارغة لزراعة ما يؤمّن للعائلة الطعام، يعملن جنباً إلى جنب مع الرجل، ومع ذلك لا يتم تقديرهنّ وإنصافهنّ حتى حين قبض ثمن الموسم، وهذا أمر عاشته الكثير من النساء الريفيات.
تقول الناشطة النسوية “سوسن زكزك”: «معظم النساء يعملن بالزراعة كامتداد للأعمال المنزلية، وهنا لا بد من قانون يثمن هذه الأعمال كلها خاصة في الزراعة حتى تستحق المرأة العاملة أجرا عليها».
فدوى، غالية، وعشرات آلاف النساء مثلهنّ، لا يحتجن فقط إلى اعتراف المجتمع بأن ما يقمن به هو عمل كامل الأركان، إنما يحتجن إلى نظام قانوني واقتصادي بضمن ألا تقاس جهودهنّ بالدخل فقط بل بالقيمة أيضاً.
في مجتمع يبني اقتصاده على أكتاف نسائه ثم ينكر وجودهن، تبقى المرأة العاملة في المنزل أو في الأرض عاملة بلا توقيع، وبلا صوت أحياناً، لكن ذلك لا يعني أن صوتها لا يستحق أن يسمع، ولا أن عملها لا يستحق أن يكافأ.