في السنوات الأخيرة، غادر أكثر من 300 ألف شخص أوطانهم للعمل في ألمانيا في مجال رعاية المسنين والمرضى. وبينما يمثل هذا الأمر فائدة لألمانيا، يثير تساؤلات حول مدى إيجابيته للعاملين في مجال الرعاية أنفسهم، خاصة مع سعي العديد من الدول لجذب هذه القوى العاملة، مما يدفع الباحثين للحديث عن "صناعة هجرة" دولية.
يؤكد الباحث الجغرافي ستيفان كوردل من جامعة إرلانغن نورنبرغ في مقابلة مع DW أن الهجرة العمالية في قطاع الرعاية أصبحت عالية الاحترافية، حيث تتنافس الجهات الحكومية والخاصة، وحتى العيادات الفردية ودور الرعاية، على استقطاب كوادر الرعاية المتخصصة والمتدربين في هذا المجال، مدفوعة بمصالح اقتصادية.
ويضيف زميله توبياس فايدنغر أن الأمر قد يصل إلى حد طلب وكالات التوظيف بتوفير عدد محدد من المهاجرين للعام التدريبي، مع استبدال أي شخص يعود إلى بلده الأصلي بآخر، مشيراً إلى أن العيادات تظهر عبر وسائل التواصل الاجتماعي أهمية الأشخاص ذوي الأصول المهاجرة كجزء أساسي من فريق العمل.
وتشير الوكالة الاتحادية للعمل إلى أنه بدون الهجرة، ستنهار الرعاية في ألمانيا، حيث يحمل ما يقرب من ربع العاملين في دور رعاية المسنين جنسية أخرى، وترتفع هذه النسبة إلى الخمس عند النظر إلى جميع المهن في مجال الرعاية، مع استمرار هذا الاتجاه في الازدياد بسبب النقص في العمالة الماهرة وتقاعد العديد من العاملين في مجال الرعاية أو تركهم المهنة بسبب عبء العمل الزائد.
وإلى جانب مقدمي الرعاية الجدد من الخارج، هناك عمال مهرة في المستشفيات أو في رعاية المسنين يحملون جواز سفر ألماني ولديهم أصول مهاجرة، بالإضافة إلى لاجئين من دول مثل سوريا أو أوكرانيا، يحرصون جميعًا على رعاية المرضى والمسنين في ألمانيا، حيث تزداد الحاجة إليهم بشدة في المجتمع المتقدم في السن.
ولكن، كيف يعيش هؤلاء الأشخاص في ألمانيا؟ وهل هم بخير بما يكفي للبقاء؟ هذا ما درسه فريق متعدد التخصصات من الخبراء في جامعة فريدريش ألكسندر في إرلانغن نورنبرغ، حيث استطلعوا آراء مقدمي الرعاية والمسؤولين في المستشفيات ومرافق الرعاية والإدارات ومدارس اللغة ومراكز الاستشارة والوكالات، لتحديد العوامل التي تساهم في رفاهيتهم في مكان العمل وفي الحياة اليومية خارج نطاق العمل.
يشير الباحث كوردل إلى أن الكتيبات الدعائية الملونة تروج لمدن مثل "برلين الجميلة" و"هايدلبرغ الرومانسية"، لكن الكثيرين ينتهي بهم المطاف في الريف حيث تختلف الأوضاع تمامًا عما توحي به هذه الكتيبات. وغالبًا ما يعتمد الأمر على الصدفة في تحديد المؤسسة التي سينضم إليها مقدمو الرعاية ومدى المساعدة التي سيحصلون عليها لبناء حياة جديدة.
هناك برامج حكومية مثل "فوز ثلاثي" لدول مختارة مثل الفلبين والهند وإندونيسيا وتونس، تهدف إلى استفادة جميع الأطراف من خلال تغطية تكاليف دورات اللغة والرحلات الجوية للعاملين، بالإضافة إلى علامة جودة حكومية للوكالات الخاصة تحت مسمى "التوظيف العادل في مجال الرعاية في ألمانيا".
إلا أن ستيفان كوردل يوضح أن بعض مقدمي الخدمات يطلبون أموالاً طائلة من العاملين في مجال الرعاية، تصل إلى 12000 يورو يتم الحصول عليها من خلال القروض ومساهمات العائلة، مما يضطر المتضررين إلى العمل في وظيفة إضافية لسداد الديون، وهو أمر يجب توضيحه بشكل أفضل.
في العديد من البلدان الأصلية، لا يتم تعلم الرعاية كوظيفة تتطلب تدريبًا مثلما هو الحال في ألمانيا، بل من خلال الدراسة الجامعية، مما يجعل البعض يكتشفون في ألمانيا أنهم يقضون الكثير من الوقت في الرعاية الأساسية بدلاً من المهام الطبية، وهي المهام التي تتولاها الأسر أو المساعدون في بلدانهم الأصلية.
وتقول ميان ديفيزا غراو من منظمة PhilNetz e.V للشتات الفلبيني لـ DW إن خيبة الأمل كبيرة عندما لا يُسمح للممرضات والممرضين الفلبينيين الحاصلين على شهادات جامعية في ألمانيا بوضع المحاليل الوريدية أو القثطرة، مما يثير تساؤلات حول سبب عدم السماح لهم بذلك.
تصف متدربة من فيتنام حياتها اليومية بالقول إنها تضطر لتعلم الكثير من اللغة الألمانية في المساء، مما لا يترك لها الوقت الكافي لإقامة علاقات اجتماعية، بالإضافة إلى التحضير للامتحانات ودورات اللغة الألمانية في عطلة نهاية الأسبوع، مما يجعل برامج التوجيه والتفهم من قبل الزملاء أكثر أهمية.
يوصي خبراء جامعة إيراك فون دير إيبر بتقديم دورات لغة محددة أثناء العمل، وتشجيع المؤسسات على التواصل مع بعضها البعض على المستوى الإقليمي لتحقيق ذلك، مشيرين إلى أن بعض التغييرات في مجال الرعاية يمكن أن تجعل الحياة أسهل للجميع، مثل إدخال نوبة عمل للأمهات أو الآباء تبدأ في وقت متأخر، بحيث يقومون بغسل المرضى في وقت متأخر، وهو ما يساعد أيضًا الآباء والأمهات الذين ليسوا من المهاجرين ويسعد المرضى الذين يحبون النوم لوقت متأخر.
يطلق توبياس فايدنغر على ذلك اسم "إزالة العوائق"، مؤكدًا أن التغييرات ستفيد الجميع، بما في ذلك توفر عدد كافٍ من الحافلات في المساء بعد انتهاء الدوام المتأخر أو توفر شقق رخيصة بالقرب من أماكن العمل.
عندما سأل الباحثون العاملين في مجال الرعاية عن النصائح التي يقدمونها لشخص أجنبي يرغب في العمل في مجال الرعاية في ألمانيا، أجابت امرأة من غينيا تعيش في ألمانيا منذ أكثر من عشر سنوات وتحمل الجنسية الألمانية بأنه "سيواجه بالتأكيد تجارب عنصرية"، وهو ما تؤكده الدراسة، مشيرة إلى أن المستشفيات ودور الرعاية بذلت جهودًا لتوعية الموظفين، لكن لم يكن هناك أي توعية للمرضى وأقاربهم.
يقول فايدنغر إنه "إذا قال الشخص الذي يتلقى الرعاية إنه لا يريد أن يتلقى الرعاية من شخص أسود، فسيكون الأمر صعبًا"، مشيرًا إلى وجود تمييز ضد الأقليات في جميع مجالات الحياة، بما في ذلك الدوائر الحكومية ووسائل النقل العام وفي الشوارع وسوق الإسكان.
يقول ستيفان كوردل إن شعور العاملين في مجال الرعاية بالراحة يعتمد على المجتمع بأسره، وإن تجارب التمييز والعنصرية تؤثر على قرار البقاء أو مغادرة المؤسسة، أو مكان الإقامة أو حتى مغادرة ألمانيا مرة أخرى.
كما أعرب العاملون الفلبينيون في مجال الرعاية عن قلقهم بشأن الشعبوية اليمينية وحزب البديل من أجل ألمانيا، وقال البعض إنهم سيجربون الأمر، وإذا لم ينجح سيذهبون إلى مكان آخر، مثل كندا التي تجذبهم بشدة.
تؤكد الدراسة أن الناس يريدون أن يتم قبولهم وأن يستقروا في مكان يشعرون فيه بالراحة، حيث تعيش عائلاتهم في رفاهية ولا يتعرضون للتنمر ولديهم أصدقاء.
ينصح العلماء من جامعة إرلانغن نورنبرغ بزيادة التواصل بين صناع القرار السياسي والوسطاء ومؤسسات الرعاية، خاصة مع الأشخاص الذين هاجروا أنفسهم، وهو ما ترغب فيه المنظمات الفلبينية أيضًا، حيث تقول ميان ديفيزا غراو إنهم يتحدثون كثيرًا عن العمالة الماهرة التي يتم توظيفها، لكنهم لا يتحدثون معهم.
يقول الباحث فايدنغر إن الكثيرين يدركون اليوم الحاجة إلى ثقافة الترحيب، لكن ما زالت تنقصنا ثقافة البقاء، مشيرًا إلى أن تحقيق المشاركة والاندماج وبقاء المهاجرين هو ماراثون طويل، والهدف هو خلق ظروف عمل ومعيشة جذابة على المدى الطويل في ضوء الخصائص المميزة للمهاجرين، وعندئذ يمكن خلق ظروف عمل ومعيشة جذابة للجميع. (DW)