المهندس سمير الحباشنة
-1-
تقوم النظرية الرأسمالية على مبادئ تعظيم الملكية الخاصة، والمبادرة الفردية، وحرية السوق، وتراكم رأس المال. وقد تطورت هذه المبادئ لاحقًا بفعل التقدم التكنولوجي والصناعي، والتحول من الإنتاج البسيط إلى الإنتاج الكبير (Mass Production)، مما أدى إلى تحقيق فائض إنتاجي تطلّب أسواقًا أوسع لاستيعابه. هذه المرحلة عُرفت بالإمبريالية، حيث فرضت الهيمنة الاقتصادية والمالية، وتطلبت بدورها سيطرة سياسية تتجاوز حدود الدولة الرأسمالية الواحدة، بل حتى خارج نطاق العالم الرأسمالي ذاته.
وقد تجلت هذه السيطرة بالتحكم باقتصادات دول العالم الثالث، سواء من خلال الاحتلال المباشر، أو عبر آليات تُفضي إلى تبعية اقتصادية كاملة. وأسفر ذلك عن تضخم النظام الرأسمالي كماً ونوعاً، مقابل ضعف متزايد في اقتصادات الدول النامية، حيث استُنزفت مواردها الطبيعية بشكل فظيع دون مقابل يُذكر.
لاحقًا، دخلت الرأسمالية مرحلتها الثالثة، التي يمكن تسميتها بـ”رأس الرأسمالية”، والمتمثلة في العولمة، التي مثّلت أعلى درجات الانفتاح الاقتصادي. فقد مكّنت الاقتصادات الرأسمالية من مد نفوذها، وبسط سيطرتها الكاملة على الاقتصاد العالمي. وتمثل ذلك بانفتاح التجارة الدولية إلى أقصى حدود، وخفض الرسوم الجمركية إلى أدنى مستوياتها، ما أتاح للدول الرأسمالية تصدير سلعها إلى أسواق العالم الثالث بأرباح عالية، وسهولة في الوصول دون حواجز.
ومن أجل ذلك، استُحدثت نظم ومؤسسات دولية جديدة، مثل منظمة التجارة العالمية، ومؤسسة الملكية الفكرية، التي حدّت من تطور الصناعات المحلية في العالم الثالث، إضافة إلى مؤسسات أخرى مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وقد بلغت العولمة أوجها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، الذي مثّل المنافس الأيديولوجي للرأسمالية، ما فتح الباب أمام تبني العالم بأسره لمعايير السوق الحر والإنتاج الرأسمالي.
-2-
هذا باختصار هو تطور الرأسمالية بمراحلها الثلاث. غير أن هذه المنظومة تشهد اليوم ما يمكن وصفه بانقلاب جذري، تقوده قرارات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي فرض رسومًا جمركية عالية على الواردات الأمريكية، وانسحب من مؤسسات دولية تشكل جزءاً أساسياً من منظومة العولمة، مثل اتفاقية المناخ، واليونسكو، ومنظمة الصحة العالمية، وغيرها.
وإذا استمرت الأمور بهذا الاتجاه، فإن الولايات المتحدة قد تدخل في عزلة إرادية شبه تامة، ما يعيد العالم إلى مرحلة “الحمائية” الاقتصادية، التي كانت سائدة قبل العولمة.
وأرى أن الرئيس ترامب، بهذا النهج، لا يكتفي برفض سياسات العولمة، بل يطيح بالفكر العولمي الذي مهّد لهيمنة الولايات المتحدة والدول الرأسمالية على الاقتصاد العالمي. ولم تقتصر هذه الهيمنة على البعد المالي، بل امتدت إلى الهيمنة الثقافية، حيث فرضت العولمة الثقافة الغربية باعتبارها “ثقافة الإنسانية” الوحيدة.
-3-
في الثاني من نيسان/أبريل الماضي، أعلن الرئيس ترامب عن قائمة تعريفاته الجمركية، واصفًا ذلك بيوم “التحرير الاقتصادي”. وقد اعتبرت مجلة فورين بوليسي (Foreign Policy) أن هذه الخطوة ستدمر النظام الاقتصادي العالمي، الذي أسسته الولايات المتحدة بعد عام 1945. فيما رأت مجلة الإيكونوميست (The Economist) أن هذه السياسة تنبئ بانسحاب أمريكي كامل من منظومة التجارة العالمية.
وإذا استمر المسار على هذا النحو، فإن منظمة التجارة العالمية نفسها قد تكون مهددة بالزوال.
وهكذا، فإن ترامب يُخلخل الرأسمالية من جذورها، ويقوض العولمة التي تمثل الذروة القصوى لتطور الرأسمالية. وإذا تبنت دول أخرى هذا النهج “الترامبي”، فإننا سنشهد موجة من السياسات الحمائية المشابهة، سواء من الدول الكبرى أو الصغرى، ما قد يؤدي إلى انهيار المفاهيم التي سادت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتُوجت بمنظومة العولمة بكل مزاياها، والتي مكّنت الدول الرأسمالية من فرض هيمنتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
صحيح أن سقوط الاشتراكية جاء لأسباب تختلف عن تلك التي قد تؤدي إلى انهيار الرأسمالية، إلا أن النتيجة قد تكون واحدة: نهاية عصر الأيديولوجيات بصيغها الاقتصادية والسياسية والثقافية، وذلك من خلال إسقاط العولمة، بوصفها أعلى مراحل تطور الرأسمالية.
ولعل ما نشهده اليوم من ردود فعل مقابِلة، كما فعل الاتحاد الأوروبي والصين وكندا وغيرها، عبر فرض رسوم جمركية مضادة، يشير إلى بداية تشكّل نظام اقتصادي عالمي جديد، أو على الأقل نهاية الشكل الحالي له.
وفي هذه الأثناء، قد تتيح العزلة الأمريكية الإرادية للصين فرصة لملء الفراغ على جميع المستويات. فكل مساحة تُخليها الولايات المتحدة، ستكون الصين جاهزة لاحتلالها، ليس فقط اقتصاديًا، بل أيضًا على الصعيدين المعنوي والعسكري. ويكفي أن نُذكّر بالتفوق الذي أظهره السلاح الصيني مؤخرًا في المواجهة المحدودة بين باكستان والهند، ما يعكس تنامي قوة الصين من مختلف الجوانب.
والسؤال: هل نحن على أعتاب سقوط الأيديولوجيات؟ وهل ستهزّ الزلازل “الترامبية” القادمة أركان النظام الاقتصادي العالمي؟
لننتظر ونرَى…
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _راي اليوم