حين بزغ نجم جورجيو أرماني (1934-2025) في منتصف سبعينيات القرن العشرين، تجاوز كونه مجرد مصمم أزياء ورفع اسم إيطاليا إلى صدارة الموضة العالمية، ليصبح فيلسوفًا للشكل والهوية، مستخدمًا القماش كأداة.
خطوطه الواضحة، ألوانه الحيادية، وقصّاته الانسيابية أصبحت علامة مميزة لأسلوب حياة جديد وفلسفة ثقافية متكاملة. تتيح أعماله قراءة أسئلة الحداثة من زوايا متعددة: بساطة الحد الأدنى، تقاطع القوة والأناقة، الزمن، رأس المال الثقافي، الجسد، والهوية القومية لإيطاليا.
يقول الفيلسوف الفرنسي رولان بارت (1915-1980) إن الموضة منظومة علامات، تُكثّف فيها التفاصيل وظيفة لغوية. لكن أرماني تمرّد على العلامة الفائضة، واعتمد مبدأ الاختزال: إزالة كل ما هو فائض. السترات غير المبطنة، الألوان المحايدة، وغياب الزخرفة شكّلت ما يمكن تسميته بـ«الهدوء الجمالي لبساطة الحد الأدنى» في مواجهة صخب الأزياء المفرطة. تقوم أناقته على الجوهر لا على الزينة، كمحاولة للقبض على ما هو أساسي ودائم وسط عالم مهووس بالمبالغة والزوال.
يعزى لـأرماني إسهام جذري في إعادة صياغة أزياء الجندر خلال الثمانينيات، عبر ما عُرف بـبدلة السُّلطة (Power Suit). ألغى الصرامة البنائية للبدلة الكلاسيكية الرجالية، فأزال الحشوات، وسمح للنسيج بالانسياب، وجعل الجسد يبدو أكثر طبيعية، وقدّم للنساء بدلات تمزج الأناقة بالسلطة، في لحظة تاريخية كانت تشهد دخول النساء إلى فضاء العمل المكتبي والقيادي. بدلات أرماني منحتهن لغة رمزية للسلطة من دون أن يفقدن خصوصيتهن الجندرية. لقد كان تدخلاً فلسفياً في السياسة الجندرية، أعاد تعريف القوة بوصفها هدوءاً واثقاً وأناقة في آن.
وعلى عكس بيوت الأزياء التي تركض خلف المواسم والصرعات، تبنّى أرماني جماليات الاستمرارية. لم يكن معنيّاً بقطع أزياء راديكالية الطابع بقدر ما كان يبحث عن الثبات والدوام. لقد قاوم بعناد منطق «الحداثة السائلة» ومذهب أنّ الموضة علامات لا تستقرّ على معنى عبر تصاميم تُخاطب الزمن المديد لا اللحظة السريعة، باحثاً بدقّة صانع ساعات عن جوهر الأناقة لا عن ظلالها العابرة.
يعمل الذوق في عالم الموضة كرأس مال ثقافي يُعيد إنتاج التفاوت الطبقي. لكن أرماني أتاح إمكانية الوصول إلى عالمه الأنيق للمستويات المختلفة، من دون أن يفقد الهالة الرمزية للتميّز. ذلك أنّ ابتكاراته لم تقتصر على الشكل، بل امتدّت إلى البنية الاقتصادية للموضة، إذ خلق عبر تفرعاته (أرماني بريفي، امبوريو أرماني…) نظاماً متعدد الطبقات للفخامة، كان أشبه بموازنة دقيقة بين النخبوية والديموقراطية، فاتحاً باب التأنق للجميع، لكن مع الحفاظ على سرّ الهيبة في مستوياتها المتفاوتة.
على أن أبرز ما فعله أرماني يظلّ تحرير الجسد من صرامة الخياطة الكلاسيكية. لقد أكدت تصاميمه على مركزيّة الجسد وحركته الطبيعية، محولاً ملابسه إلى سردية بصرية للهوية يُبنى المعنى فيها عبر الشكل المتمحور حول الجسد، لا خارجه.
يُجسّد أرماني على مستوى ما قصة إيطاليا الحديثة. بعد الحرب العالمية الثانية، كانت البلاد تُعيد بناء ذاتها مترددة بين التقشّف والانطلاق. وإذا كان فيلليني قد قدّم وقتها إيطاليا للسينما العالميّة، وإيتالو كالفينو أعطى الأدب لعبته الحداثية، فإنّ أرماني منح عالم الأزياء فلسفة التناسب والرهافة والاحتراف الإيطالية. على يديه، «صُنع في إيطاليا» لم تعد مجرّد دلالة على المنشأ، بل فلسفة عيش: الأناقة ليست تكديساً لرموز الثراء، بل احترامٌ للشكل والجسد والزمن.
أن ترتدي أزياء أرماني، لا يعني تزيين الجسد فقط، بل تبنّ متعمد لرؤية للعالم تُقيم التوازن بين الهدوء والسلطة، بين الزمن والحداثة، بين الشكل والهوية. وكما رحل كارل ماركس وبقيت من بعده الماركسيّة، فإن فلسفة الأناقة الأرمانية ستبقى حتى بعد رحيل فيلسوفها المؤسّس.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار