عنب بلدي – عمر علاء الدين
"لو قضيت عمري كله في الجامعة من المستحيل أن أرفع سلاحًا بوجه ابن عمي أو قريبي، ولو اضطررت لإعادة الشهادة الثانوية العامة مرة أخرى لأعدتها، حتى لا ألتحق بالخدمة العسكرية"، هذا ما قاله حسين الخطيب (27 عامًا)، الطالب في كلية الهندسة المدنية بجامعة دمشق.
ينحدر حسين من حي جوبر الدمشقي، ويقيم حاليًا في منطقة ركن الدين. يقضي الآن سنته السابعة في كلية الهندسة المدنية (مدتها الفعلية خمس سنوات)، وقد قرر إكمال مواده العالقة للتخرج هذه السنة عقب سقوط النظام السابق. عانى طلاب الجامعة المقيمون في مناطق سيطرة النظام من تكاليف التأجيل ومخاوف الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية في جيش النظام السابق، وكان كثير منهم يفضل الرسوب في المواد الدراسية، ليتمكن من تأجيل الالتحاق بالخدمة.
كالآلاف من أهالي جوبر هرب حسين من قصف جيش النظام السابق، وما لحق بالحي الدمشقي من دمار، ما جعله مصممًا على رفض الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية ولو اضطر للفرار أو التخلف، ما قد يعرضه للملاحقة وربما السجن.
"الهم الأكبر الذي كان يؤرقني وعائلتي، هو الخدمة الإلزامية، إذ كنا نناقش يوميًا السيناريوهات المحتملة، بعد الانتهاء من دراستي في كلية الهندسة"، بحسب حسين، الذي قرر في النهاية الاستنفاد الدراسي بالرسوب لسنتين متتاليتين على أمل حدوث "معجزة تزيل هذا الكابوس".
رفض حسين "الالتحاق بجيش أدمن الإجرام والتعفيش وامتهان كرامات الناس، وقال، "فوق كل هذا هجَّرني أنا وأهلي ودمَّر منزلي، فكيف أنتمي لمن قتلني؟".
شهد حي جوبر شرقي دمشق معارك عنيفة بين فصائل المعارضة وقوات النظام السوري، على مدى سنوات منذ عام 2011، تعرض فيها الحي إلى القصف بمختلف أنواع الأسلحة، ما أدى إلى دمار واسع في أبنيته. وتمكنت قوات النظام من بسط سيطرتها على الحي، في نيسان 2018، بعد أن وقّعت روسيا اتفاقية "تسوية" مع "فيلق الرحمن"، خرج بموجبها مقاتلو الغوطة الشرقية إلى الشمال السوري.
لم يستطع حسين الخروج للشمال السوري أو يغادر سوريا، لظروف أبرزها وجوده في حي ركن الدين في قلب العاصمة، الذي كان "يعجّ بالشبيحة" وعناصر المخابرات يراقبون كل صغيرة وكبيرة، كما عانى والده من ورم سرطاني، في أواخر عام 2018، ما تطلب علاجه وملازمته لفترة انتهت بوفاته في منتصف 2020 .
المسؤولية التي ألقيت على عاتق حسين، جعلته يهتم بدراسته وعائلته بآن واحد، وإضافة إلى هموم لقمة عيشه هو وإخوته الثلاثة ووالدته، كان شبح الخدمة العسكرية يلوح بوجه حسين دائمًا، ما أوقعه في حيرة بين خيارين، إما إكمال الدراسة لتحسين الدخل وهذا يعني الالتحاق بالخدمة العسكرية، أو الرسوب المتعمد، وهذا يعني مستقبل بعوائد مالية أقل وحماية مؤقتة من الخدمة العسكرية، وبطبيعة الحال ذهب حسين إلى الخيار الثاني.
ويقول حسين إنه لم يصدق أن النظام سقط، "لقد تلاشت كل تلك الكوابيس التي كانت تراودني، إذ أن الخوف من مواجهة قريبي الموجود في إدلب بالسلاح وجهًا لوجه، كان يعطل قدرتي على التفكير"، ويتابع الشاب أن المسؤولية الأخلاقية والدينية وحتى مسؤولية الأهلي كلها كانت تدفعه للبقاء على وضعه السابق.
ويردف، "لولا أن منَّ الله علينا بسقوط النظام.. لكنت الآن إما جندي براتب لا يكفي قوت يومين وبخدمة غير معلومة النهاية، أو طالب في فرع من فروع جامعة دمشق، أستنفذ ما بقي من سنين عمري بمستقبل غامض وأحلام مؤجلة إلى أجل غير مسمى".
وبعد سقوط النظام، أعلن رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، في 15 من كانون الأول 2024، إلغاء التجنيد الإجباري في سوريا.
مصير مجهول.. خوف يعززه البطش
يقول أحمد إبراهيم، الطالب في كلية الإعلام قسم الإذاعة والتلفزيون، جامعة دمشق، أن المصير المجهول، هو أكثر ما كان يخافه في الخدمة العسكرية، خصوصًا ما كان يُروى عن معاملة ضباط النظام السابق للمجندين الجدد، وعدم تقدير أي تحصيل علمي للملتحقين بالخدمة، عدا عن الهاجس الأهم لأحمد كما قال، وهو "الخوف من أني حط برقبتي دم".
أحمد وفي حديث لعنب بلدي، أكد، تعمده الرسوب في مقررات دراسية في الكلية، وعلى الرغم من تفوقه إلا أنه كان مستعدًا للتضحية ببعض الدرجات والسنوات كي يحافظ على نفسه وأمانه في تلك الظروف.
وهناك أسباب أخرى دفعت أحمد لتعمد الرسوب في مقررات كلية أبرزها كان الخوف الحقيقي من الالتحاق بالجيش دون عودة، وقال أنه سمع قصصًا كثيرة عن شبان انقطعت أخبارهم بعد التحاقهم بأسابيع.
ينحدر أحمد من منطقة "الحجر الأسود"، التي تعمد النظام السابق تهميشها خدميًا، وتكثيف الرقابة عليها أمنيًا، وروى قصة عمه الذي رفض ضرب المتظاهرين في بداية الثورة، باعتباره رجل أمن، فاعتقله النظام وزجه في سجن "صيدنايا" سيء السمعة، وبعد سقوط النظام وتحرير السجون تبين أن عمه قد "استشهد" في السجن إثر التعذيب الشديد الذي تعرض له، كما يقول.
الكثير من أصدقاء أحمد في الكلية أو خارجها، رفضوا الالتحاق بالخدمة العسكرية لعدة أسباب منها رفضهم أن يكونوا أدوات بيد نظام لا يحترم حياتهم ولا قناعاتهم، وكي لا يحملوا السلاح بوجه أقاربهم في الشمال السوري.
الكثيرون لجأوا للاختباء في منازلهم، يعيشون حياتهم متوارين عن الأنظار، دون أوراق، دون مستقبل، دون عمل، كل هذا من أجل عدم ارتداء البدلة العسكرية والمشاركة في قتل الأبرياء، بحسب أحمد.
يرى أحمد، أن التخوف من الالتحاق بالخدمة العسكرية كان حالة عامة شبه جماعية، مضيفًا أن التهرب من الخدمة، سببه أن الجيش لم يعد "جيش الوطن"، بل أصبح وسيلة للزج بالناس في مستنقع من الدم والقهر، و"أصبح الطلاب يستجدون طريقًا للهروب من هذا الاستحقاق المفروض، لأنه لم يعد واجبا وطنيًا ، بقدر ما هو خطر وجودي".
إلزامية الخدمة.. استنزاف للمجتمع
استخدم النظام السوري الخدمة الإلزامية كسلاح متعدد الأوجه للضغط على المجتمع السوري واستنزافه، عبر فرض مجموعة من المسارات أمام أي مكلف للخدمة الإلزامية سواء كان داخل البلاد أو خارجها.
وكان يجب على من هم في داخل سوريا تأدية الخدمة حكما، إذ لا يتيح قانون الرقم "30" لعام 2007، دفع بدل داخل البلاد إلا لذوي الخدمة الثابتة، التي تكلف ما بين 3 آلاف دولار و8 آلاف دولار، وهو ما فتح بابًا من أبواب الفساد المالي والإداري في وزارة الدفاع ولجان الفحص الطبية، وفق مقال للباحث في شؤون الأمن والجيش، محسن المصطفى، نشره معهد "التحرير لسياسة الشرق الأوسط".
وحدد القانون الخدمة الإلزامية بمدة 18 شهرًا، إلا أنه وبعد الثورة، فرض النظام السوري على العسكريين الإجباريين، الاحتفاظ العسكري أو الخدمة الاحتياطية، حيث أصبح من شبه المستحيل الحصول على تسريح من الخدمة، والتي استمرت في بعض الأحيان لـ 7 – 9 سنوات وربما أكثر، وهو ما شكل بحد ذاته سببًا مباشراً للتهرب من الخدمة أو الانشقاق، وفق الباحث.
وكانت الراتب الشهري للمجندين الإجباريين في جيش النظام لا يتجاوز 5 دولارات في أحسن الأحوال، وبالتالي قام عدد كبير من المجندين وتحت حماية سلك الضباط والمتطوعين بتنفيذ أعمال خارج إطار القانون فيما يعرف بعمليات "التعفيش"، والحصول على الإتاوات أثناء خدمتهم على الحواجز العسكرية التي تقطع أوصال المدن والبلدات وعلى الطرق الرئيسية.
في حين اتجه بعض المجندين مع جشع وفساد سلك الضباط إلى دفع مبالغ مالية بمقابل أن يؤدي خدمته من المنزل، تدعى هذه العملية "التفييش"، وهي ليست ظاهرة ناشئة بعد عام 2011، بل هي أقدم من ذلك بكثير، وفق مقال الباحث المصطفى.