الإثنين, 4 أغسطس 2025 07:34 PM

سوريا بعد الأسد: هل لازلنا أسرى التفكير الطفولي في السياسة؟

سوريا بعد الأسد: هل لازلنا أسرى التفكير الطفولي في السياسة؟

أحمد عسيلي: منذ اللحظات الأولى لسقوط نظام الأسد، أو بالأحرى، بعد الأسبوع الأول من انهياره، بدأت تظهر ملامح معارضة جديدة للسلطة التي حلّت محله. كان هناك تخوف مبرر من صعود سلطة ذات طابع ديني إسلامي متشدد.

في البداية، كان هذا الرفض خجولًا، خاصة في ظل نشوة الخلاص من نظام الأسد وسجله الدموي الثقيل. عاشت سوريا في تلك الأيام لحظة استثنائية: زوال سجن "صيدنايا"، بكل ما يحمله من تاريخ دموي، كرمز سلطوي، وانفتاح مساحات من الحريات لم يعرفها السوريون منذ عقود.

لكن تدريجيًا، بدأت التناقضات الداخلية في المجتمع السوري بالظهور. كانت أزمة مقام الخصيبي، التي تزامنت مع محاولة اعتقال شخصية أمنية بارزة في طرطوس، أول اختبار علني لحدود السلطة الجديدة، وأدت إلى مواجهات دامية. تبع ذلك تحركات عسكرية في الساحل من قبل أنصار النظام السابق، مما أسفر عن مجازر مروعة بحق العديد من المدنيين العلويين وبعض المدنيين السنة وأفراد الأمن. ثم جاء موقف الشيخ الهجري ورفضه دخول الجيش إلى السويداء، مما أسس لانقسام درزي-سلطة لاحق، حادٍّ ومؤلم، دون الخوض في إشكالية العلاقة مع "قسد".

كل هذه الأحداث ولّدت شعورًا متزايدًا لدى شرائح واسعة من السوريين بأن السلطة الجديدة لا تمثل الجميع، بل تكرر أخطاء النظام السابق، وإن بوجه مختلف. ومع تنامي هذا الرفض، عادت المعارضة لرفع شعارات مشابهة لشعارات عام 2011: "ارحل"، "السلطة لا تمثلني". بدا وكأن الذاكرة السياسية السورية تدور في حلقة مفرغة. اللافت أن هذه المعارضة الجديدة، كسابقتها، لم تقدم مشروعًا واضحًا، بل تكررت نفس اللغة، نفس النبرة، نفس الإلحاح الطفولي على حل واحد: الرحيل، دون تصور لما بعد، أو آليات للوصول، أو ضمانات للانتقال، فقط التمسك بالخلاص الرمزي: زوال الحاكم.

يذكرني هذا السلوك بحالة مريض عربي تابعته في باريس، كان يعاني من اكتئاب حاد. أمضى هذا الشاب سنوات يعمل بجد في بلده لتأمين تكلفة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، حالمًا بباريس، مدينة النور، معتقدًا أن الوصول إليها هو نهاية مشكلاته، كحال معظم الشباب العربي. عرف الطرق، اتصل بالمهربين، جمع المال، وعبر البحر عبر ليبيا. وحين وصل إلى باريس، قدم طلب لجوء، وانتظر، وظن أن الحياة ستبدأ، بسلوك يشبه حال سلطتنا بعد السقوط، وكأن كل شيء سيكون على ما يرام بمجرد زوال الأسد.

لكن لم يبدأ شيء، بل بدأت مرحلة التيه الحقيقي: أوراق لا تنتهي، مكاتب مغلقة، لغة غريبة، وحدة قاتلة، بلا عمل، بلا أصدقاء، بلا هوية واضحة. بدأ يشعر أنه محاصر في شبكة من الإجراءات التي لا يفهمها. لم تكن العودة إلى بلده ممكنة، لأنها تعني الاعتراف بأن كل تلك السنوات ضاعت سدى، كما لم تكن الحياة في فرنسا تملك أي ملمح من الحلم الذي رآه. اكتشفنا معًا خلال الجلسات أنه لم يكن يملك أي مشروع فعلي لما بعد الوصول، كل خياله كان متمركزًا حول لحظة الوصول كأنها لحظة الخلاص النهائي، لم يفكر أبدًا في أنه سيحتاج إلى بناء شيء ما، إلى وقت، إلى تعلم، لم يكن يتصور بأنه بعد الوصول سيواجه شكلًا آخر من المشكلات، ظن أن كل شيء سيحل تلقائيًا.

وهذا تمامًا ما نراه اليوم في لغة السياسة السورية، على ضفتي النظام والمعارضة: غضب ورفض تام من جهة، مع أمل ووعود كبيرة من جهة أخرى، لكن بلا مشروع واضح، وكأن إسقاط النظام هو لحظة الخلاص الوحيدة، وكأنها نهاية التاريخ، متناسين أن داخل المجتمع السوري ذاته، هناك تناقضات هائلة، طبقية، دينية، مناطقية، لغوية، لا تزول بمجرد سقوط النظام.

هذا النمط من التفكير يشبه ما يسميه بعض المحللين النفسيين بـ"التفكير الأداتي"، ويمكن أن نسميه "التفكير الطفولي"، حيث لا يُفكر الإنسان إلا في نتيجة واحدة نهائية، ويُغفل كل ما قبلها وكل ما بعدها. وهنا يتحول العمل السياسي من فعلٍ مركّب إلى أمنية، ويتحول المطلب الشعبي إلى تكرار صوتي لا يُنتج أثرًا.

وإذا عدنا للمريض السابق، نكتشف أنه أكثر واقعية من معارضتنا حاليًا، فذلك الشاب، على الأقل، عرف طريقه للوصول إلى أوروبا، خطط له، واجتهد، ورسم طريقًا واضحًا ونجح في الوصول (كالسلطة)، الصدمة كانت في اليوم التالي للوصول فقط (كالسلطة والمعارضة)، أما المعارضة الحالية، فهويتها نفي فقط: لا تشارك، تضغط لاستقالات جماعية، تطلب تدخلًا دوليًا، دون أي خطة للفعل، بل تطالب بأن يقوم طرف خارجي غير محدد بفعل كل شيء عنها.

في النهاية، يبدو أن سوريا لم تتجاوز بعد عقدتها الأولى: رفض الحاكم دون مساءلة الذات، نريد أن يرحل كل شيء، لكن لا نعرف من يأتي، أو كيف، أو لماذا، نعيش بلا خيال سياسي وبلا مشروع واقعي، والفراغ كما علمنا التاريخ، لا يظل فارغًا طويلًا، يملؤه العنف، أو الأساطير، أو زعماء من ورق.

مشاركة المقال: