الجمعة, 5 ديسمبر 2025 02:57 PM

سوريا ما بعد الثورة: خارطة طريق "نصر بلا ثأر" نحو مستقبل جديد

سوريا ما بعد الثورة: خارطة طريق "نصر بلا ثأر" نحو مستقبل جديد

منذ اللحظات الأولى للتحرير في 8 كانون الأول 2024، انتهجت الدولة السورية مساراً فاجأ الكثيرين، ولكنه الأكثر توافقاً مع احتياجات مجتمع أرهقته الحرب والانقسام: مسار "نصر بلا ثأر". هذه العبارة، التي أطلقها الرئيس أحمد الشرع من على منبر الأمم المتحدة، لم تكن مجرد شعاراً للتجميل، بل إعلاناً عن تحول جذري في الفلسفة السياسية لسوريا الجديدة، وعقداً أخلاقياً بين الدولة وشعبها، وبين سوريا والعالم، يؤكد انتهاء زمن الانتقام وأن العدالة ستكون محور المرحلة المقبلة.

لم يأتِ هذا الخيار من فراغ، فمعركة "ردع العدوان" التي أسقطت نظام الأسد البائد كانت في جوهرها حدثاً عسكرياً وسياسياً غير متوقع. فوجئ الثوار بالانهيار السريع في بنية النظام، مما اضطرهم للانتقال الفوري من منطق الثورة إلى منطق الدولة. هنا، برزت الحاجة إلى خطاب سياسي قادر على طمأنة الداخل وامتصاص المخاوف من الفوضى، وتهدئة الخارج القلق من مرحلة ما بعد نظام "آل الأسد". فكان خطاب التسامح هو الجسر الذي عبرت عليه السلطة الجديدة نحو توحيد الجبهات ومنع الانفلات، وكبح نزعات الانتقام التي بدأت تظهر في بعض المناطق.

إن "نصر بلا ثأر" ليس مجرد موقف أخلاقي، بل هو سياسة دولة تتطلع إلى المستقبل، وأدركت أن أي انتقام سيعيد إنتاج الانقسامات التي كادت تطيح بكيان سوريا. أكد الرئيس الشرع بوضوح أن الجرائم لن تُمحى، ولكن ستُحاسب عبر مؤسسات العدالة الانتقالية لا عبر السلاح. المقاربة الجديدة تفصل بين المجتمع السوري ككل، وبين فلول النظام المتورطين في الانتهاكات، وكان لهذا الموقف دور حاسم في تهدئة المخاوف ونزع فتيل احتمالات خطيرة كان يمكن أن تنزلق نحو دائرة دم جديدة.

على المستوى السياسي، شكل هذا النهج الأساس الذي بُنيت عليه ترتيبات انتقال السلطة. إلغاء دستور 2012، وحل مؤسسات النظام الأمنية والحزبية، ترافَق مع الدعوة إلى مؤتمر وطني، وصياغة إطار دستوري جديد يضمن تمثيل كل المكونات السورية. بذلك، لم يُستخدم "النصر" كذريعة لاحتكار السلطة، بل كمدخل لتأسيس حكم يقوم على القانون والمواطنة، ويعيد بناء هوية وطنية جامعة تتجاوز الإرث الطائفي الذي صنعه النظام البائد على مدى نصف قرن.

أما اجتماعياً، فقد فتحت سياسة التسامح الباب لاندماج السوريين مجدداً في هوية واحدة، بعد سنوات من التقسيم الفعلي إلى مربعات نفوذ ومناطق متخاصمة. أدركت السلطة الجديدة أن إعادة بناء الدولة لا يمكن أن تتم دون مصالحة اجتماعية حقيقية، ودون شعور كل السوريين (من عرب وأكراد وتركمان وسريان، من مسلمين ومسيحيين، من أبناء المدن والريف) بأنهم متساوون تحت سقف واحد، وأن سوريا الجديدة ليست ملكاً لطرف ولا غلبة فيها إلا للقانون.

مع أن تحديات المرحلة الانتقالية لا تزال كبيرة، خصوصاً في ملف العدالة الانتقالية، وصياغة الدستور، وإعادة بناء الجيش والأمن، فإن خيار "نصر بلا ثأر" منح الدولة السورية فرصة نادرة، تؤسس لشرعية تستند إلى المصارحة وإلى شراكة وطنية جامعة. بالتالي، فإن سوريا الجديدة ما بعد التحرير في 8 كانون الأول تدخل حقبة جديدة، عنوانها أن القوة التي لا تُترجم إلى عدالة وتسامح تتحول إلى عبء، أما القوة التي تُترجم إلى استقرار وطمأنة وبناء، فهي وحدها القادرة على صنع أفق دولة تستحق أن تولد من جديد.

الوطن

مشاركة المقال: