عنب بلدي – محمد كاخي
يتوقف تعافي القطاع المصرفي الخاص في سوريا على استعادة العلاقات الدولية مع البنوك العالمية. إلا أن وجود مساهمين معاقبين في هذه البنوك يشكل عائقًا رئيسيًا، حيث يؤدي ذلك إلى تشديد إجراءات العناية الواجبة، وتأخير عمليات الانضمام، وزيادة التدقيق، مما يرفع تكاليف الامتثال ويدفع المؤسسات المتحفظة إلى الانسحاب.
امتثال البنك يعني الالتزام بجميع القوانين واللوائح المنظمة للعمل المصرفي، بالإضافة إلى المعايير الأخلاقية والأعراف المعمول بها. وتتعامل وظيفة الامتثال في البنك مع مخاطر عدم الالتزام، والتي قد تؤدي إلى عقوبات قانونية أو ضرر مالي أو تراجع في سمعة البنك. ويكافح الامتثال أو يحد من:
-
غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
-
الاحتيال المالي والمصرفي.
-
تضارب المصالح والفساد.
-
انتهاك حقوق العملاء.
وفقًا لدراسة أجراها مركز “كرم شعار للاستشارات”، يمتلك ثمانية أفراد (إما خاضعون للعقوبات مباشرة أو مرتبطون بأشخاص خاضعين للعقوبات) حصصًا في 15 بنكًا سوريًا خاصًا حتى 20 آب الماضي. ومن بين الأسماء الأكثر إشكالية من حيث الامتثال، أحمد خليل وناصر ديب ديب، وكلاهما خاضع لعقوبات الاتحاد الأوروبي بسبب عملهما كواجهات اقتصادية للنظام السابق.
أوضح بنجامين فيف، الباحث والمحلّل الأول في مركز “كرم شعار للاستشارات”، لعنب بلدي أنه يمكن للبنوك الأوروبية قانونيًا التعامل مع البنوك السورية إذا لم تكن “خاضعة للسيطرة الفعلية” لشخص مدرج على لوائح العقوبات، لأنها ستعتبر كيانات معاقَبة أيضًا في هذه الحالة. ولكن المشكلة تكمن في أن عملية التأكد من أن البنك “لا يخضع لسيطرة مساهم معاقَب” مكلفة وتستغرق وقتًا، ولأن الحافز المالي لممارسة الأعمال في سوريا ليس كبيرًا، وعائد الاستثمار منخفض، فلن تهتم الكثير من البنوك بالتعامل مع سوريا بهذه الظروف.
وبحسب توجيهات مجموعة العمل المالي (FATF)، يتعين على البنوك المراسلة التحقق من “المالكين المستفيدين” للمؤسسات التي تتعامل معها، وإنهاء العلاقات عندما لا يمكن التحكم بالمخاطر. ورغم أن هذا لا يحظر التعامل بشكل قاطع، فإن ارتفاع المخاطر يرفع تكاليف الامتثال ويقوض الجدوى التجارية.
التعرف على المساهمين الإشكاليين وعزلهم
من بين الأسماء المثيرة للجدل أيضًا، بحسب دراسة مركز “كرم شعار”، ناديا ياسين سلمان، المساهمة في سبعة بنوك سورية. فهي ليست خاضعة للعقوبات مباشرة، لكن منذ حزيران 2021، أظهرت مراجعة هياكل الملكية أن أسهم رامي مخلوف تختفي، وتظهر أسهم سلمان بمقادير مشابهة. كما يُعتقد أنها استحوذت على أسهم محمد حسن عباس، وكيل رامي مخلوف المعاقَب أمريكيًا، في شركة “STC” المتخصصة بمشاريع النقل، وتبدو هذه التحركات محاولة لحماية أصول مخلوف أو نقلًا مدبرًا من قبل النظام المصرفي إلى شخصية موثوقة.
وتتعدى المسألة أسماء محددة، إذ تهيمن على سجلات المساهمين في البنوك الخاصة مجموعة من الأشخاص الخاضعين للعقوبات، أو الكيانات المرتبطة بهم، بالإضافة إلى آخرين مرتبطين بمخاطر محتملة بسبب الروابط العائلية أو التجارية مع من هم معاقبون.
يرى بنجامين فيف أن أول وأهم خطوة يجب على ممثلي القطاع المصرفي الخاص فعلها هي أن يخرجوا للعلن ويعترفوا بوجود المشكلة ويعملوا على حلها، ويصرحوا بأن هؤلاء المساهمين لم يعد لهم أي علاقة بالبنوك، وبالتالي، استبعادهم من أي عملية صنع قرار، ومن حقوقهم في التصويت بالجمعيات العامة. ويجب أن تكون البنوك شديدة الشفافية عند التعامل مع المؤسسات المالية الدولية، كالبنوك الأخرى، بخصوص هؤلاء الأفراد.
أدوات قانونية
عملية استعادة المراسلات بين البنوك السورية الخاصة والبنوك الخارجية إشكالية ومعقدة، بحسب ما أوضحه خبراء اقتصاديون لعنب بلدي، إلا أنه يمكن تفكيكيها عبر مجموعة من الخطوات والأدوات التي من شأنها أن تفتح الطريق نحو الخارج.
قال الدكتور في الاقتصاد، والموظف السابق في مصرف حلب المركزي، عبد المنعم حلبي، لعنب بلدي، إنه لا يمكن الوقاية من أثر هؤلاء المساهمين إلا في حال تم اتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم، وفي حال ثبوت تورطهم بجرائم مالية أو متعلقة بجرائم ضد الإنسانية أدت إلى تحقيق ثرواتهم، لا بد من القيام بمصادرة أموالهم وفق الأصول المرعية، وتحويلها للمال العام بإدارتها مباشرة من قبل الحكومة، أو ببيعها في مزادات علنية لمصلحة الخزانة العامة.
وأوضح الحلبي أنه يجب على السلطة الانتقالية ممثلة بالحكومة ومصرف سوريا المركزي احترام استقلالية السلطة القضائية في هذا الملف الحساس، والتعامل وفق مبدأ سيادة القانون لمنح السلطة القضائية صلاحيات كاملة في تقرير مصير الأملاك، والأموال المتعلقة بالمجموعات المتهمة بالتورط في دعم أو الاستفادة من مزايا أو شراكات غير قانونية مع أركان النظام السابق. ويمكن للحكومة تحريك الدعوى العامة بحق هؤلاء، وكذلك السماح لمؤسسات المجتمع المدني وللمواطنين بذلك، وفق القوانين المرعية، والقوانين التي يتوقع صدورها في إطار متطلبات العدالة الانتقالية.
وبحسب الباحث بنجامين فيف، فإن ما ينبغي القيام به فعليًا، هو أن يقوم الرئيس، أو حتى البنك المركزي، بإصدار قرارات يعلَن فيها النظر بهذا الأمر، وأنه يتم تجميد هذه الأصول، ويجب أن يكون ذلك بشكل علني. وعلى البنك المركزي في سوريا أن يتدخل للنظر في أمر مجالس الإدارة الحالية وهيكل المساهمين في هذه البنوك، وأن يتقدم بحلها إذا حدد مجالس إدارة متأثرة بالعقوبات، بحسب فيف.
ويتفق الدكتور في الاقتصاد، ووزير المالية والاقتصاد السابق في “الحكومة السورية المؤقتة”، عبد الحكيم المصري، بأن تجميد هذه الأموال سيزيد من مصداقية البنوك، وهو إجراء مهم جدًا كي يتم تجاوز العقوبات، إما بقانون أو مرسوم أو عن طريق القضاء.
بحاجة إلى مبادرة دولية
من النقاط الأساسية التي تحتاج إليها البنوك السورية، بحسب الخبراء، تفعيل التواصل مع البنوك الخارجية، إلا أن هذه البنوك، بحسب الباحث والمحلل فيف، خصوصًا الأوروبية، لا ترسل أي رد على رسائل البنوك السورية، لأنها غير مهتمة بالسوق السورية، بسبب شدة تعقيدها.
وبحسب فيف، فإن البنوك الدولية هي التي ينبغي أن تقوم بالخطوة الأولى، وأن تقدم الدول الأوروبية ممثلة بحكوماتها ضمانات للمؤسسات المالية الأوروبية، وتخبرها أنه يمكنها إعادة العلاقات مع سوريا، وأنه لا توجد عقوبات بعد الآن، ولن تخالف أي قوانين. وهذا بدوره سيسمح بعودة الاستثمارات إلى الظهور، لأن أحد أكبر العوائق أمام الاستثمارات في سوريا، هو غياب علاقات المراسلة المصرفية بين البنوك المحلية والبنوك الدولية.
وبالمقابل، على البنوك السورية، بحسب الدكتور في الاقتصاد عبد الحكيم المصري، الالتزام بقرارات “بازل” للرقابة المصرفية بنشر تقارير الشفافية، وتقديم تقارير واضحة لنظام “سويفت” والإفصاح عن نسب المساهمين والمالكين. ويمكن للبنوك، لتعزيز شفافيتها، طلب مدققين من “بازل” و”سويفت” لتدقيق عملياتها وقوائمها المالية للتأكد من مشروعية عملها، وبالتالي تكون الرقابة فعالة بمساعدة منظمات دولية، بحسب المصري.
الآثار المترتبة على القطيعة
أدت العقوبات على سوريا إلى تأثيرات سلبية كبيرة على التنمية الاقتصادية، إذ تسببت في تجميد الأصول، ومنع التعاملات المالية والتجارية، الأمر الذي أدى إلى تراجع الاستثمارات والإنتاج في مجالات متفرقة، وتعثر القطاعات المالية والتكنولوجية.
يشرح الدكتور في الاقتصاد، ووزير المالية والاقتصاد السابق في “الحكومة السورية المؤقتة”، عبد الحكيم المصري، لعنب بلدي، أثر استمرار القطيعة بين البنوك الدولية والبنوك السورية، بأن غياب هذه العمليات يؤثر على إنتاج الاقتصادي السوري، ويُبقي الباب مفتوحًا أمام السوق السوداء، ويعرقل عمليات الصرافة والحوالات، خصوصًا في حالة الحوالات الكبيرة، ويرفع تكاليف التحويلات في حال تمت العملية خارج نطاق “سويفت”.
وتعوق هذه القطيعة عملية الاستثمار، لأن المستثمر يقوم بتحويل مبالغ كبيرة جدًا، ولن يقوم بتحويلها عبر قنوات غير رسمية، وبالتالي لدينا عقبة أمام الاستثمار، والتنمية، والتجارة الخارجية.
وبحسب الباحث والمحلل الأول في مركز “كرم شعار للاستشارات”، بنجامين فيف، فإن هذه القطيعة تعوق التعافي الاقتصادي، لأن من الصعب جدًا تمويل المشاريع، أو إعادة الإعمار، أو ببساطة إدخال الأموال، ما لم تُستأنف علاقات المراسلة المصرفية.
وإذا لم تحدث تطورات إيجابية في القطاع المصرفي، ستبقى السوق السورية رهينة لقطاع الاقتصاد غير الرسمي، الذي بلغ أقصى طاقته خلال السنوات السابقة.