السبت, 10 مايو 2025 04:52 PM

فرنسا تختبر الشرع: هل ينجح في تحقيق رؤيتها لسوريا؟

فرنسا تختبر الشرع: هل ينجح في تحقيق رؤيتها لسوريا؟

في دولة مثل فرنسا، لا تغيب عن غرف صناعة القرار ذهنية “التفكير الإمبراطوري” الراغبة في استعادة “المجد” الضائع. فمشاريع الدول عندما تتحطّم – ومشاريع فرنسا جرى تحطيمها تماماً، رفقة بريطانيا، خريف عام 1956 -، لا تستسلم بسهولة، بل تعاود الكرّة على نحو ما يظهر عبر منظمة “الفرنكوفونية” التي اجترحتها باريس عام 1970، كوسيلة للتمدّد، أو المحافظة على “النفس” الإمبراطوري، في موازاة الخيار البريطاني الذي راح في اتجاه تعزيز الجنيه الإسترليني، الذي هوت سيطرته بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بعدما دامت لنحو قرنين من الزمن.

واقع الأمر أن باريس كانت قد استندت زمن انتدابها على سوريا (1920 – 1946)، إلى تركيبة بسيطة تقوم على استمالة البرجوازية السنيّة مع تعويم دور الأقليات، خصوصاً في مجال العسكرة، حيث كان الميْل واضحاً عند الأخيرة إلى الانخراط في ذلك المجال لاعتبارات اقتصادية بالدرجة الأولى، الأمر الذي خلق نوعاً من “الوشائج” بين باريس وتلك الأقليات، حتى بعد مغادرتها سوريا. لكنّ “الخيبة” الفرنسية راحت تتدحرج بعد وصول حزب “البعث” إلى السلطة عام 1963، وكبُرت مع انقلاب حافظ الأسد عام 1970.

فالرجل الذي اشتهر باللعب على التوازنات الدولية، كانت عينه على واشنطن، ولم تكن علاقته بباريس أكثر من جسر عبور إلى الأولى، وهو حارب بشدة “الفرنكوفونية” في سوريا، بل وفي لبنان الذي دخله جيشه صيف عام 1976 بضوء أخضر أميركي. أما زمن ابنه بشار، الذي استقبله جاك شيراك في الإليزيه وهو لم يكن يحمل أي منصب رسمي بعد، فكانت الخيبة أكبر، خصوصاً عندما راح الرئيس السابق يعمل على “هندسة” المشهد اللبناني وفق سياسات كاسرة للكثير من التقاطعات والمصالح، بل وكاسرة أيضاً للتوافقات الداخلية اللبنانية التي أرسيت في ميثاق 1943 وفي “اتفاق الطائف” عام 1989.

هنا، قد يصح القول إن خيارات باريس كانت ماضية نحو استغلال فرصة سانحة لاستعادة نفوذها في بقعة إستراتيجية تشهد أهم تحوّل جيوسياسي منذ اتفاقية “سايكس بيكو” التي أثبتت، حتى الآن، أنها عصية على الاختراق، وإن كان الكثير من التباشير التي تلوح في الأفق يفيد بأنها لم تعد كذلك. وعليه، كان استقبال الرئيس السوري الانتقالي، أحمد الشرع، في الإليزيه، يندرج في الإطار المشار إليه، على رغم المحاذير الكبرى التي يحملها هذا الاستقبال. فدولة مثل فرنسا، ذات الثقل الأوروبي الوازن، ناهيك عن الحمولات التي فرضها رفع رايات التنوير ومناصرة حقوق الإنسان، تُخضِع خطواتها لمعايير محسوبة بمقاييس لا تصح معها “مسطرة” الذهنية الآنفة الذكر.

بزيارة الشرع إلى فرنسا، وهي لم تكن خياراً لأنها الدعوة الأوروبية الوحيدة التي وُجهت إليه، يمكن الجزم بأن الأخير قرّر “الانكفاء” إلى الوراء، ومراجعة حساباته في ما يخص”خارطة الطريق الفرنسية” التي سبق أن رفضها قبل أشهر. ويرمي هذا الانكفاء إلى تعديل بعض البنود التي أُوحي إليه أنها تهدف إلى زعزعة استقرار سلطته، مثل “إنشاء مجلس عسكري متنوّع على أن تُنقل إليه الصلاحيات الأمنية والعسكرية”، و”إجراء انتخابات رئاسية شاملة خلال عام”.

ومن يراقب الأيام القليلة التي سبقت الزيارة، يرى أن السلوك الفرنسي كان ضاغطاً بدرجة ترمي إلى وضع الشرع أمام “الخيار صفر”، الذي يعني قبول الخارطة من دون تحفّظات تُذكر. وفي الإعلام الفرنسي، راحت تتكاثر التقارير التي تُظهر “الخلفية الجهادية” للرئيس السوري، ما يحول بين الفرنسيين و”الثقة فيه”، وهو ما ورد حرفياً على لسان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال مؤتمره الصحافي الذي عقده مع الشرع.

والبعض من هذه التقارير كان يقذف الشرع بسلسلة لا تنتهي من الانتهاكات المرتكبة بحق الدروز والعلويين، ويقول إن “الأقمار الصناعية رصدت مقاطع تفوق تلك التي رصدتها كاميرات الجوالات الميدانية”، فيما دعا البعض الآخر إلى “اشتراط خروج الشرع من العقلية الفصائلية إلى عقلية الدولة، التي، وإن أعلن عنها، لكنّ الأمر بقي عند تخوم الإعلان فحسب، وهو ما تؤيده الوقائع اليومية”.

وكل هذا، جنباً إلى جنب مؤشرات عدة من نوع طريقة الاستقبال مثلاً، يرمي إلى خلق مناخ ضاغط، نجح في تحقيق الكثير مما يرمي إليه. فوفقاً لصحيفة “نيويورك تايمز”، تحفّظ الرئيس السوري فقط على الطرح الفرنسي (وهو أميركي أكثر) المتعلّق بملف المقاتلين الأجانب وطرق حلّه، وهو قال إن “هذا ملف سيادي تصعب مناقشته”، مضيفة أن “ماكرون أبلغ الشرع أنه تحت رقابة غربية دقيقة، وأن الوقت يضيق”.

المؤكّد الآن هو أن الشرع قد تخلّى عن فكر “السلفية الجهادية”، بل إن العديد من المؤشرات يقول إنه تخلى عنه منذ وقت غير قصير قبل وصوله إلى السلطة، لكنه لا يستطيع الدخول في صدام معه لأنه ببساطة يمثّل الركيزة الأساسية التي يقوم عليها حكمه الآن، وهو يدرك أن ظهوره بنموذج “الوسطي الإسلامي”، المطلوب داخلياً وإقليمياً ودولياً، إنما يمثّل الخطر الأول الداهم عليه.

ولعل ما يؤكد ذلك أكثر هو السلوك الذي تمارسه الجماعات المتشدّدة بصور شتى من دون القدرة على ردعها، ضاربة عرض الحائط برزمة القرارات “الخجولة” التي صدرت كمحاولة للحد من تأثيراتها، بل وبفتوى “تحريم الدم السوري” التي أطلقها مفتي الجمهورية، الشيخ أسامة الرفاعي، قبل أيام. ومن دون شك، تدخل التجربتان المصرية 2012 – 2013، والتونسية التي استمرت بعدها ثماني سنوات، في صلب حسابات الشرع، فما أسقطهما هو عدم القدرة على احتواء التطرّف، ومنْع تحوّله إلى قوة معطّلة لمشروع بناء الدولة، لكنّ السؤال الذي لا إجابة عليه هو: ما السبيل إلى ذلك؟

مشاركة المقال: