الجمعة, 17 أكتوبر 2025 10:14 AM

من الإبداع إلى الإعالة: معاناة الفنانين في ظل غياب التمويل الثقافي

من الإبداع إلى الإعالة: معاناة الفنانين في ظل غياب التمويل الثقافي

عادةً ما يُنظر إلى المنتج الثقافي القيّم والربح على أنهما طرفان نقيضان، أو غايتان لا يمكن تحقيقهما معًا. هذا التقسيم الشائع للفنون والآداب يضع الأعمال الجادة والناضجة في المرتبة الأولى، مع افتراض أن أصحابها لا يسعون إلى المال، وأن مجرد الكسب من عمل فني كلوحة أو فيلم أو قصيدة، يُحيلها إلى مرتبة الاستهلاكي والرخيص. هذا التصنيف يجعل شباك التذاكر عنوانًا للأفلام والمسرحيات "التجارية"، واللوحات المعروضة للبيع مجرد أدوات للتزيين.

الفرز الثقافي برر تدني الأجور بشكلٍ أو بآخر، حتى أصبح الكلام عن المال إهانةً بحق الفنان وانتقاصاً من شأن الأديب

فرز ثقافي

هذا الفرز الثقافي حكم الساحة الفنية لزمن طويل، وشابه الكثير من الأخطاء وسوء التقدير والانحياز، ما أدى إلى إبداع لا يرقى إليه الشك في بعض الأحيان، وإقصاء لم يجد من يعترف به في أحيان أخرى. والأهم من ذلك، أنه برر تدني الأجور، حتى أصبح الحديث عن المال إهانة للفنان وانتقاصًا من شأن الأديب. لم ينجُ من هذا الفرز سوى قلة عرفت كيف تدير البوصلة، بدلًا من انتظار التقدير والأجر المناسب ممن لا يبالون بالجهد ولا يجيدون التقييم. وقد تسبب ذلك في إفقار العديد من الكتاب والرسامين والمطربين الذين رضوا بالقليل المتاح من المؤسسات الحكومية، في ظل غياب اهتمام القطاع الخاص بالإنتاج والتمويل. ولو بحثنا في التاريخ القريب، لوجدنا أسماءً كبيرة أنهكها الفقر والحاجة، رغم أنها وهبت حياتها للإبداع.

أجور مُهينة

الحديث عن الأجور المهينة للعاملين في المسرح، بمن فيهم مسرح الطفل، قديم جدًا، لكنه لم يثمر حتى اليوم. وينضم إليهم كتاب السيناريو والأغاني، وأعداد كبيرة من الشعراء والصحفيين والموسيقيين والمصورين. هؤلاء جميعًا معنيون بإنتاج مواد فنية وأدبية يجب أن تكون لائقة ومتقنة وقادرة على التأثير. فلماذا لا يحصلون على أجور تتناسب مع ساعات العمل الطويلة والمرهقة ذهنيًا وجسديًا، والتي لا تسمح بممارسة عمل آخر؟ الكثير منهم تجاوز ذلك منذ زمن، فأصبحوا سائقين ومدرسين خصوصيين، وبعضهم يعمل عتالًا في الأسواق، وآخر ينظم الدور في العيادات الطبية، ومؤخرًا أصبح أحدهم "حوّيص" في البزورية، ومع ذلك نتوقع منهم الأفضل.

لماذا لا تُعطى لفناني المسرح والمُصورين والصحفيين أجورٌ تتناسب مع ساعات العمل الطويلة والمُنهكة ذهنياً وجسدياً، ولاسيما أنها لا تسمح بممارسة عمل آخر؟

واقع جديد

اليوم، يبدو السؤال الأكثر إلحاحًا: هل ما زال هذا التقسيم بين "الجاد" و"التجاري" قائمًا في زمن طغت فيه الثقافة الرقمية، وأصبح الجمهور شريكًا في صناعة القيمة؟ منصات التواصل الاجتماعي صنعت واقعًا جديدًا، لم يعد فيه "الراقي" حكرًا على النخبة، ولا "الشعبي" مقتصرًا على العامة. العديد من الأعمال التي انطلقت من رحم "الاستهلاك" اليومي تحولت إلى ظواهر ثقافية تثير أسئلة جمالية وفلسفية عميقة. كما برزت نماذج لفنانين وكتاب سوريين رفضوا الثنائية القديمة، واختاروا مسارات جديدة تجمع بين عمق المضمون وبراعة التسويق، وأسسوا مشاريعهم الخاصة، وبنوا جمهورًا يقدر عملهم ويدفع مقابله. هؤلاء لم ينتظروا رعاية مؤسسة أو جهة داعمة، ولم يخجلوا من الحديث عن المال، لأنهم يعتبرون أن القيمة المادية ليست عدوًا للقيمة الفنية، بل هي مؤشر على وصول الرسالة وتأثر المتلقي.

دعم حقيقي

في المقابل، يبقى دور المؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية محوريًا في كسر هذه الحلقة المفرغة. فبدلًا من تبني سياسة "الإنتاج بثمن بخس"، يجب أن تتحول إلى حاضنات حقيقية تضمن حدًا أدنى من الكرامة للعاملين في الحقل الثقافي. وعلى القطاع الخاص أن يدرك أن الاستثمار في الثقافة ليس ترفًا، بل هو استثمار في رأس المال البشري والهوية الوطنية. ربما حان الوقت لإسقاط مفردات مثل "فن تجاري" و"إبداع نقي" من قاموسنا، والبدء في بناء مفهوم جديد للقيمة الثقافية، قيمة لا تقاس ببعدها عن السوق، بل بقدرتها على خلق حوار، وتحريك الأسئلة، وبناء جسور بين الناس، وفي الوقت نفسه، تدر عائدًا عادلاً يضمن لمبدعها حياة كريمة، بحيث لا تكتفي تلك المؤسسات بالحديث عن إبداع فناني المسرح وصحفيي المؤسسات الحكومية، بل تدفع لأجل استمراريتهم.

اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية

مشاركة المقال: