السبت, 23 أغسطس 2025 03:41 PM

من رماد الحرب إلى لوحات فنية: فنان من كوباني يحيي فن الفسيفساء بألوان الأمل

من رماد الحرب إلى لوحات فنية: فنان من كوباني يحيي فن الفسيفساء بألوان الأمل

فتاح عيسى – كوباني

في ركن هادئ من منزله المتواضع، ينكبّ فاروق إيبو (45 عاماً) على طاولة خشبية تعجّ بأدوات بسيطة وقطع حجرية صغيرة. ينتقي حجراً تلو الآخر، يقصّه بعناية فائقة، ثم يضعه في مكانه المخصص، كأنه ينسج حكاية عريقة بألوان هادئة. هكذا، بين يديه، يولد فن الفسيفساء، فتتحول الأحجار القادمة من مدن مختلفة إلى لوحات فنية بديعة، تجسد تاريخاً طويلاً من الألم والجمال، تماماً كما في حياة هذا الفنان.

رحلة مع الحجر

تعلم فاروق هذه الحرفة منذ نعومة أظفاره، عندما كانت عائلته تقيم في لبنان. لم يكن مجرد طفل يلعب، بل كان تلميذاً نجيباً في ورشة العائلة، يتقن أسرار هذا الفن الذي توارثته الأجيال. واليوم، بعد مرور أكثر من ربع قرن على ممارسته، يؤكد أن الفسيفساء ليست مجرد مهنة، بل هي لغة فنية عريقة. يقول فاروق لنورث برس: "بدأت وأنا طفل صغير، ثم علّمت إخوتي وأطفالي. الحجر أصبح جزءاً من حياتي اليومية، كالخبز والماء"، وهو يمسح بيده على لوحة لم تكتمل بعد.

بين الحرب والفن

لكن هذه اللغة كادت أن تصمت بسبب الحرب. فقبل الأزمة السورية، كان فاروق يعتمد بشكل كامل على عائدات الفسيفساء، بل إن فنه كان يسافر إلى أماكن أبعد منه، من لبنان إلى روسيا وأمريكا ودول أخرى. ومع إغلاق الطرق وصعوبة الحصول على المواد الأولية، توقفت يداه عن العمل لسنوات. يوضح فاروق: "الأزمة لم تسرق حجارتنا فحسب، بل سرقت قوتنا أيضاً. فاللوحة التي كانت تباع بمئة دولار صافية، بالكاد تساوي الآن نصفها بعد احتساب التكاليف". ورغم كل هذه الصعوبات، لم يستسلم. ففي الأشهر الأخيرة، أعاد إحياء ورشته بصمت، وأنجز لوحات لشخصيات وأشكال هندسية ونباتية، سافر بعضها إلى روسيا.

من كل مدينة لون

تحمل كل لوحة من لوحات فاروق خريطة ألوان خاصة بها. فالحجر البيج يأتيه من جبال القرداحة، والأصفر من دمشق، والزهري من إدلب، أما عفرين فتمد يده بالألوان الداكنة من البني والأسود. وحتى كوباني، مسقط رأسه، تمنحه صخورها البنية والوردية التي تشبه ألوان إدلب. يقول فاروق بابتسامة متعبة: "كل حجر يحمل لون مدينة. وعندما أجمعها، أشعر أن هذه المدن التي تبعد مئات الكيلومترات صارت قريبة من بعضها داخل اللوحة. ربما هذا هو المعنى الحقيقي للفسيفساء". لكن ليست كل الألوان متاحة. فالأخضر الذي كان يستورده من الهند، والوردي الباكستاني لم يعودا في المتناول، مما يضطره أحياناً إلى ابتكار بدائل.

مهنة صعبة.. لكنها خالدة

في ورشة فاروق، لا مكان للسرعة. فاللوحة التي تبلغ مساحتها متراً مربعاً قد تحتاج إلى خمسة أيام من العمل اليدوي المضني، فيما لوحات أخرى قد تستنزف عشرة أيام كاملة. بعدها تبدأ مرحلة التركيب، حيث تثبت اللوحة في جدار أو أرضية لتبقى كما هي لعشرات، وربما مئات السنين. يعلق فاروق: "الحجر طبيعي من المرمر. لا يتغير لونه. اللوحة يمكن أن تعيش أكثر منا جميعاً". خلال سنوات عمله الطويلة، رسم مئات اللوحات، من نباتات وأشكال هندسية وصولاً إلى وجوه شخصيات شهيرة. ومن بين ما يفتخر به لوحة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، طلبتها إحدى الجهات الروسية بطول متر ونصف. ورغم أن فن الفسيفساء يلقى اهتماماً في دول مثل الأردن وتونس والمغرب، إلا أن سوريا تكاد تخلو من معارض متخصصة. وحده معرض دمشق الدولي يتيح بين حين وآخر مساحة صغيرة لهذه اللوحات. ومع ذلك، يصر فاروق على أن هذا الفن لا يجب أن يتوقف: "أتمنى أن يكون هناك قسم جامعي اسمه فن الفسيفساء، مثل النحت. لا أريد أن تنتهي المهنة عندي". ولأجل ذلك، بدأ بالفعل بتعليم طفله وأكثر من ثلاثين شخصاً من أبناء مدينته، غير أن معظمهم اضطر للهجرة بعيداً.

بين الماضي والمستقبل

في كل حجر يضعه، يحاول فاروق أن يثبت أن الفسيفساء ليست مجرد قطع صغيرة متجاورة، بل ذاكرة مدينة كاملة. ذاكرة تحاول أن تصمد، مثل صاحبها، وسط حرب أنهكت كل شيء. يقول فاروق: "الحجر لا يتكسر بسهولة، حتى لو طالته الحرب. وأنا أيضاً لا أريد أن أنكسر"، قبل أن يعود إلى طاولته، حيث تنتظر لوحة جديدة أن تكتمل.

تحرير: معاذ الحمد

مشاركة المقال: