السبت, 18 أكتوبر 2025 08:34 PM

نظرة في فلسفة الحرب: مقارنة بين رؤى المتنبي وهوميروس

نظرة في فلسفة الحرب: مقارنة بين رؤى المتنبي وهوميروس

إبراهيم أبو عواد

يُعد المتنبي (303 هـ - 354 هـ / 915 م - 965 م) أحد أعظم شعراء اللغة العربية على مر العصور. تتمحور معظم قصائده حول ذاته ومدح الملوك، ويبرز شعره في الحكمة وفلسفة الحياة ووصف المعارك والحروب. لم يقتصر وصفه للحرب على كونها حدثًا دمويًا، بل جعلها مرآة للمجد والبطولة والكرامة، مصورًا إياها بعين الفارس الذي يرى في المعركة ميدانًا للاختبار والخلود. وعلى الرغم من تمجيده للحرب، لم يغفل عن قسوتها، فهو يدرك آلامها، لكنه يرى فيها قدرًا لا مفر منه لمن طلب العُلا، فالمجد لا يُنال إلا بالتضحية، ولا يُصان إلا بالقوة.

الحرب في شعره ليست مجرد صراع بين الجيوش، بل هي أيضًا رمز للحياة التي لا تستحق أن تُعاش من غير مجد أو شجاعة، وهي التي تكشف حقيقة الرجال، وتظهر طبيعة البشر، وتميز الأبطال من الجبناء، فالشريف يزداد شرفًا، والوضيع يظهر جبنه وخيانته، وهي الطريق إلى المجد الذي لا يُنال بالراحة أو التمني، وهي امتحان للإرادة الإنسانية. لذلك كانت الحرب في نظره ميزانًا أخلاقيًا يكشف معادن الناس.

لقد حوّل ساحة المعركة إلى لوحة حية، تضج بالحركة والأصوات والألوان، فالسُّيوف عنده تلمع كالبروق، والخُيول تُزمجر كالعواصف، والدماء تُزهر كالورد في الرمال، والغبار يلف الأفق كالغيم المشتعل. إنه يصف المشهد ويجسده، حتى يسمع القارئ صوت الحديد، ويرى لمعان الدروع.

البطل في شعره هو مزيج من الإنسان والأسطورة، وهو يقاتل لينتصر، ويقيم عدلًا، ويصنع اسمًا، ويتحدى الظروف. والبطولة الحقيقية هي مواجهة الموت بابتسامة الكبرياء، لذلك كثيرًا ما يربط بين الشجاعة والعزة والعقل والدهاء.

وخلف أوصاف الدماء والسيوف، تكمن رؤية فلسفية عميقة، فالحرب ليست عبثًا، بل وسيلة لإثبات الذات، والنصر الحقيقي هو نصر الروح والإرادة، ومن لم يغامر، مات صغيرًا، حتى لو عاش طويلًا. وهو يرى أن المجد الحقيقي لا يُنال إلا عبر الخطر والمغامرة، خصوصًا في ميادين القتال، فمن يطلب السلامة يعيش بلا أثر، أما من يخوض الحرب بكرامة فيُخلد اسمه في التاريخ. والحرب عنده وسيلة لتحقيق الخلود الرمزي، لا مجرد نصر مادي.

نظر إلى الحرب على أنها صورة مكثفة للصراع الدائم في الحياة، بين القوة والضعف، الطموح واليأس، المجد والدونية. وكل إنسان في فلسفته محارب، سواء في ساحة القتال، أو في معارك الحياة اليومية.

ويُعتبر هوميروس (القرن التاسع قبل الميلاد) أعظم شاعر في الأدب اليوناني القديم، وهو الشاعر المنسوب إليه تأليف ملحمتي الإلياذة والأوديسة، اللتين تُعتبران من أهم الأعمال الأدبية في الحضارة الغربية. وعلى الرغم من مكانته الأدبية، فإن تفاصيل حياته الحقيقية غامضة.

قدم وصفًا واقعيًا وشاملًا للحرب، بما في ذلك تفاصيل المعارك والأسلحة، وصور الحرب بطريقة ملحمية، تجمع بين البطولة والمأساة، مركزًا على الأبطال وتضحياتهم، فهي الميدان الذي يُختبر فيه الشرف والبطولة، وهي ليست صراعًا دمويًا فحسب، بل هي أيضًا مسرح يظهر فيه الأبطال قيمًا مثل: الشجاعة والإقدام (كما في شخصية أخيل)، والولاء للوطن والرفاق (كما في هيكتور المدافع عن طروادة)، والسعي نحو المجد الخالد الذي يتجاوز الموت.

ورغم الطابع البطولي، يُظهر فظاعة الحرب، ويصف الدماء والجراح وصرخات الموت بتفاصيل حية ومؤلمة، ويُبين حزن الأمهات والزوجات، وبكاء الأحبة على القتلى. فالحرب تجلب الدمار للمدن والأسر، وتترك خلفها الألم، حتى عند المنتصرين. وهكذا، تبدو الحرب عنده ضرورية لكنها مأساوية، فهي تُنتج البطولة، لكنها أيضًا تلتهم الأبطال.

والحرب ليست فقط صراعًا بشريًا، بل أيضًا ساحة لتدخل الآلهة والقدر، فالآلهة تتدخل لدعم هذا الطرف أو ذاك، مما يجعل مصير الحرب قدرًا محتومًا أكثر منه نتيجة لاختيارات البشر. ومع ذلك، يبقى لكل بطل حرية التصرف ضمن حدود هذا القدر، مما يضفي بعدًا فلسفيًا ودينيًا وأسطوريًا على مفهوم الحرب.

وهو يتميز بأسلوب تصويري رائع، حيث يستخدم التشبيهات الملحمية، فيشبه المقاتلين بالعواصف، أو الحيوانات المفترسة، ويدخل إيقاعًا شعريًا يجعل المعارك كأنها لوحات متحركة مليئة بالحركة والضوء والصوت، ويصورها بشكل دقيق ومفصل، بدءًا من تجهيز الجيوش، والقتال الفردي بين الأبطال، وحتى سقوط القتلى وجثثهم، والوصف يعطي إحساسًا بالواقعية والحضور.

والحرب عنده ليست شرًا مطلقًا ولا مجدًا خالصًا، بل تجربة إنسانية كاملة تجمع بين العظمة والرعب، البطولة والفناء، المجد والحزن. وهي تعبير عن طبيعة الإنسان نفسه: عظيم في شجاعته، وضعيف أمام قدره. وهناك قواعد ضمن الحرب تتعلق بمعاملة الأسرى وكرامة الخصم، مثل احترام الجثث، وعدم السخرية منها، مما يشير إلى مفهوم بدائي للعدالة والإنسانية في أوقات الصراع.

وإذا كان المتنبي يركز على الفرد والبطولة الشخصية في الحرب، مع استخدام لغة شعرية مركزة وشفافة، فإن هوميروس يضع الحرب في إطار سرد ملحمي شامل يجمع بين الأبطال، والآلهة، والمآسي الجماعية.

مشاركة المقال: