الثلاثاء, 17 يونيو 2025 01:11 AM

جفاف يضرب سوريا: مزارعون يتخلون عن القمح كمراعي للمواشي في أسوأ موسم منذ عقود

جفاف يضرب سوريا: مزارعون يتخلون عن القمح كمراعي للمواشي في أسوأ موسم منذ عقود

تواجه سوريا هذا العام واحدة من أشد موجات الجفاف في السنوات الأخيرة، مع انخفاض حاد في معدل هطول الأمطار، هو الأدنى منذ عام 1997، ما ألحق أضراراً فادحة بالمحاصيل البعلية وجزئية بالمحاصيل المروية.

درعا، الحسكة، باريس- “لن أزرع دونماً واحداً في العام القادم لأنها مهنة خاسرة”، قال فرهاد أحمد سنجار، مشتكياً من تراجع الإنتاج الزراعي في أرضه بريف مدينة عين العرب (كوباني) خلال العامين الأخيرين، نتيجة شح الأمطار، لذا وجد نفسه مضطراً للتخلي عن “مهنة آبائنا وأجدادنا”.

زرع سنجار هذا العام 150 دونماً من القمح المروي، ومثلها من الشعير البعلي، و50 دونماً من الخضراوات الصيفية (الباذنجان، الفليفلة، الخيار، والبندورة)، في قريته ايلاجاغ بريف مدينة عين العرب (كوباني) شمال حلب، لكن الشعير لم ينبت بشكل جيد بسبب قلة الأمطار، ما اضطره إلى بيع المحصول مبكراً لأصحاب المواشي، والتفت لحصاد محصول القمح خلال هذه الأيام، كما قال لـ”سوريا على طول”.

عند إجراء المقابلة مع سنجار، في العاشر من الشهر الجاري، كان لديه أمل أن ترفع الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا تسعيرة القمح إلى 500 دولار أميركي للطن الواحد، بعد أن كانت التسعيرة العام الماضي 310 دولارات. في اليوم التالي، الإدارة الذاتية سعر الطن الواحد بـ 420 دولاراً، يتضمن السعر دعماً مباشراً بقيمة 70 دولاراً للطن الواحد من القمح، بينما حكومة دمشق سعر شراء الطن الواحد من القمح للنوع القاسي درجة أولى 320 دولاراً، إليها 130 دولاراً مكافأة تشجيعية عن كل طن يقوم الفلاح بتسليمه للمؤسسة السورية للحبوب، كما جاء في مرسوم رئاسي.

بلغت خسائر سنجار في محصول الشعير البعلي خمسة آلاف دولار، أما محصول القمح إذا بيع الطن الواحد بأقل من 500 دولار “سوف نخسر”، على حد قوله.

وإلى جنوب البلاد، استغنى محمد البصيري هذا العام عن زراعة البطاطا والبندورة والباذنجان، وهي من المحاصيل المروية، واكتفى بزراعة القمح البعلي في أرضه بمحافظة درعا، توفيراً لتكاليف المياه وظناً منه أن الإنتاج سيكون جيداً، لكنه فوجئ بـ”موسم صفري” مشيراً إلى أنه مني بخسارة كبيرة “لأن القمح لم ينبت بالشكل المعتاد، إذ لم يتجاوز طول النبتة سوى 10 سنتيمتر”.

اضطر البصيري، الذي يزرع القمح منذ ثلاثين عاماً إلى بيع محصوله إلى مربّي المواشي أيضاً، بعد أن فقد الأمل بهطول أمطار كافية، وتعرضت المنطقة إلى الجفاف، بما فيها الآبار الارتوازية التي جفت بشكل كامل، كما قال لـ”سوريا على طول”.

مجموعة أغنام ترعى في أرض محمد البصيري، المزروعة بالقمح، بعد أن فشل موسمه الزراعي هذا العام بسبب قلة الأمطار، 17/ 04/ 2025، (عماد البصيري/ سوريا على طول)

ونتيجة تأخر الهطولات المطرية هذا العام، اضطر البصيري إلى البدء بزراعة القمح في نهاية كانون الأول/ ديسمبر الماضي، متأخراً شهراً كاملاً عن الموعد، كما اضطر إلى تقليل عدد الدونمات التي يزرعها من القمح إلى 40 دونماً، وهي نصف المساحة التي يزرعها كل عام.

بلغت تكلفة زراعة قمح البصيري قرابة 44 مليون ليرة سورية (4.4 ألف دولار، بحسب سعر الصرف في السوق الموازية)، بما فيها ضمان الأرض (الإيجار) البذار والحراثة والتعشيب (إزالة الأعشاب)، فيما لم يسترد من بيعها للمواشي سوى 600 ألف ليرة.

تواجه سوريا هذا العام إحدى أشد موجات الجفاف في السنوات الأخيرة، مع انخفاض حاد في هطول الأمطار.

ووفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، إجمالي هطول الأمطار التراكمي خلال الربع الأول من العام الحالي 94.9 ملم، وهو أدنى مستوى منذ عام 1997، وهو أقل بكثير من المتوسط طويل الأمد البالغ 165.4 ملم للفترة نفسها ما بين عامي 1989 و2015، وأيضاً أقل بكثير من المعدل المتوسط بين عامي 2019 و2024، الذي يتراوح بين 192 و 298 ملم، للفصل الأول من العام.

وتظهر صور للموسم الزراعي الحالي 2024-2025، تدهوراً حاداً في الغطاء النباتي مقارنة بالسنوات السابقة، مع انخفاض استثنائي في هطول الأمطار، وتراجع في الإنتاج، وضعف في صحة النبات، ما يعني أن سوريا قد تواجه خطر نقص الغذاء.

شمال شرق سوريا: خسائر فادحة

مع بداية الموسم الزراعي الحالي، زرع جوان محمد عثمان، من قرية كرباوي في ريف القامشلي، 500 دونم من القمح بتكلفة إجمالية مقدارها 13 ألف دولار، ومثلها من الشعير بتكلفة عشرة آلاف دولار، و100 دونم من العدس بتكلفة ألف دولار، وجميعها بعلية، لكن المحاصيل الثلاثة لم تنتج شيئاًً على الإطلاق بسبب شح الأمطار، كما قال لـ”سوريا على طول”، ما يعني خسارة كامل المبلغ البالغ 24 ألف دولار.

إضافة إلى المحاصيل الثلاثة، زرع عثمان 10 دونمات من القمح المروي، و30 دونماً من الشعير المروي، و20 دونماً من الفول، بتكلفة إجمالية مقدارها 3500 دولار، وسقى هذه المحاصيل “بشكل محدود” بسبب أزمة المحروقات، وبالنتيجة “لم تنتج أيضاً”، ما اضطره إلى تحويلها إلى مرعى للأغنام، على حد قوله.

وأضاف: “خسارتي لا تعادل شيئاً أمام خسائر المزارعين أصحاب المساحات الكبيرة”، مشيراً إلى أنه يعرف مزارعين تكبدوا خسائر كبيرة، منهم “مزارع في قريتنا خسر مئة ألف دولار، وآخر خسر 200 ألف دولار، لأن المحاصيل لم تنبت”.

“مشهد الأراضي الزراعية وهي صفراء اللون بلا محاصيل صادم ومخيف، آلاف الدونمات الزراعية تلفت في ديريك [المالكية]، ولم تنبت أبداً، حتى أن بعضها لم تصلح كمرعى”، قال صالح حج خليل، 50 عاماً، مزارع من أبناء قرية روبار بريف مدينة المالكية (ديريك) شمال الحسكة لـ”سوريا على طول”.

عادة، يزرع حج خليل مادة الحمص بالإضافة إلى القمح والشعير البعلي والمروي، لكنه لم يزرع الحمص هذا العام، واكتفى بزراعة 60 دونماً من القمح البعلي و40 دونماً من الشعير البعلي، لأن الأشهر الثلاثة الأولى من الموسم (تشرين الثاني/ نوفمبر، كانون الأول/ ديسمبر، وكانون الثاني/ يناير) لم تحمل هطولات مطرية، وهذا حال كل المزارعين في منطقته، إذ إن المساحة المزروعة في المالكية بمادة الحمص لهذا العام لا تتجاوز واحد بالمئة من المساحة المزروعة العام الماضي، وفقاً له.

في العام الماضي، تراوح إنتاج دونم القمح المروي لدى حج خليل بين 3 و5  شوال (الشوال الواحد يزن نحو 90 إلى 110 كيلوغرام)، لكن هذا العام وصل إنتاج الدونم الواحد المروي عند المزارعين في منطقته إلى 1.5 شوال فقط.  أما القمح البعلي “وصل نموه إلى نحو عشرة سنتمترات وتوقف بعدها عن النمو”، رغم أن “أراضي ديريك معروفة بخصوبتها وكمية إنتاجها”، معتبراً العام الحالي هو الأسوأ زراعياً منذ خمسين عاماً”.

إضافة إلى نقص الأمطار، واجه أصحاب المزروعات المروية مشاكل في توفير المحروقات اللازمة لتشغيل مضخات المياه. اشتكى اثنان من المزارعين في شمال سوريا، من الذين تحدثوا مع “سوريا على طول” لغرض إنتاج هذه المادة، من نقص مخصصات الوقود الزراعية، التي تقدمها الإدارة الذاتية، إضافة إلى تأخير تسليمها.

وقال عثمان، أنه استلم أربعة براميل من المازوت، أي ما يعادل 800 ليتر على أربع دفعات، بسعر 1350 ليرة لليتر الواحد (0.13 دولار)، إلا أن هذه الكمية قليلة جداً، ولا تكفي لري محاصيله المروية، لذا اضطر إلى شراء ثلاثة آلاف لتر من المازوت الحر بأسعار تتفاوت بين 4300 ليرة و 6500 ليرة لليتر الواحد (0.43 و0.65 دولار).  ورغم أن القطاع الزراعي كان متراجعاً العام الماضي مقارنة بالأعوام السابقة، وعانى المزارعون من الجفاف ونقص الأمطار آنذاك، إلا أن أرباح عثمان “كانت جيدة نوعاً ما العام الماضي”.

وعانى سنجار أيضاً من مشكلة عدم استلام الفلاحين كامل مخصصاتهم من المحروقات، مشيراً إلى أنه استلم أربع دفعات من المازوت المخصص للقمح، تضمنت كل دفعة 900 ليتر، استخدمها في سقاية محصول القمح المروي ثلاث مرات، واضطر إلى شراء ألفي لتر إضافية من المازوت الحر لري محصول القمح أربع مرات أخرى.

حصادة تحصد محصول القمح في قرى جبل كوكب بريف مدينة الحسكة، شمال شرق سوريا، 10/ 06/ 2025 (سوزدار محمد/ سوريا على طول)

القمح البعلي في درعا: إنتاج صفري

زرع محمود محمد السويداني أرضه البالغة مساحتها 250 دونماً في ريف درعا الغربي، بالقمح والشعير المروي وتجنب زراعة مادة الحمص هذا العام بسبب شح الأمطار وقلة توفر المياه، واصفاً الموسم الحالي بأنه “الأسوأ منذ أن بدأت عملي في الزراعة عام 2003، حيث الإنتاج المنخفض للزراعات المروية وشبه معدوم للبعلية”.

تراوح إنتاج دونم القمح المروي في أرض السويداني من 200 إلى 250 كيلوغراماً، بينما تراوح في الأعوام السابقة بين 300 و 500 كيلوغرام، كما قال لـ”سوريا على طول”.

يعتمد السويداني في الري على مياه السدود والآبار الإرتوازية، لكن هذا الموسم “لا يوجد مياه في السدود بسبب قلة الأمطار، وتوقفت شبكات الري المرتبطة بالسدود هذا العام بسبب عدم وجود مخزون مياه كافٍ فيها، وجفت أغلب الآبارفي محيطي، لذلك قلصنا عدد الريّات”.

اقرأ المزيد:

كذلك واجه السويداني مشاكل في توفير الوقود لتشغيل آبار المياه، إضافة إلى ارتفاع سعرها، ما جعل تكلفة الإنتاج هذا العام أعلى من السنوات السابقة، كما قال، علماً أن دعم المحروقات توقف في مناطق نظام الأسد البائد منذ سقوط الأخير في كانون الأول/ ديسمبر 2024.

حال الزراعة البعلية لم يكن أفضل، إذ اضطر غالبية المزارعين إلى ترك محاصيلهم لرعي المواشي، كون “الإنتاج كان معدوماً، والزرع لا يمكن حصاده بسبب قصر طوله”، كما أوضح ناصر العودة الله، 57 عاماً، مزارع من مدينة نوى غرب درعا.

في السنوات السبع الأخيرة، قلّص العودة الله المساحة المزروعة من أرضه إلى 50 دونماً، يزرع فيها القمح والشعير والحمص، بسبب تراجع الزراعة، لكن الموسم الحالي كان “الأسوأ”، قائلاً: “لم أرَ مثله منذ ثلاثين عاماً، نما النبات بشكل جزئي وضعيف ثم توقف. إنتاج أرضي صفر”.

وقال العودة الله: “الزراعات البعلية متعاقبة المواسم كان إنتاجها صفر، أما الأراضي البعلية المرتاحة أي غير متعاقبة المواسم لم يتجاوز إنتاجها الربع مقارنة بالسنوات السابقة”، عازياً ذلك إلى أن عدد الهطلات المطرية هذا الموسم كان أربع هطلات، ولم يتجاوز المنسوب في الهطلة الواحدة من 10 إلى 15 ملم، فيما لم يتجاوز الموسم الكامل حوالي 110 ملم، “وهي غير كافية”.

كذلك، واجه المزارعون ومنهم العودة مشكلة تأخر مواعيد الهطولات المطرية في بداية الموسم الزراعي، وهي مشكلة مستمرة منذ خمس سنوات، ترتبط بالتغير المناخي الذي يضرب المنطقة.

صورة مأخوذة بطائرة من دون طيار (درون) تظهر عملية حصاد أرض مزروعة بالقمح في ريف مدينة الشيخ مسكين شمال درعا، 05/ 06/ 2025، (عماد البصيري/ سوريا على طول)

أسباب تضرر القمح

تؤدي قلة الأمطار وارتفاع درجات الحرارة إلى “تسريع مراحل نمو القمح، ما يقلل فترة امتصاص العناصر الغذائية، وتقليص فترة التفريع والإزهار، بالتالي تقليل عدد السنابل والحبوب، وزيادة خطر الإجهاد المائي، خصوصاً في مرحلة الإزهار وامتلاء الحبة، وهذا يضعف الإنتاجية”، بحسب المهندس الزراعي عبود إبراهيم (اسم مستعار)، من مدينة الرقة، شمال شرق سوريا.

يحتاج القمح البعلي من 250 إلى 350 ملم من الهطولات المطرية السنوية كحدّ أدنى من أجل “الإنتاجية المقبولة”، لكن في السنوات الأخيرة “انخفضت فعالية هذه الكمية بسبب ارتفاع درجات الحرارة وزيادة التبخر، ما زاد من كميات المياه التي يحتاجها المحصول”، كما أوضح إبراهيم لـ”سوريا على طول”.

كذلك، فإن “الفروق الكبيرة في درجات الحرارة بين الليل والنهار، وموجات الحر خلال مرحلة الإزهار تتسبب في تلف الأزهار وتقليل عقد الحبوب، وتؤثر على نوعية الحبوب وامتلائها”، وتزيد هذه التفاوتات “الضغط على النبات وتقلل كفاءته الفسيولوجية”، بحسب إبراهيم.

وأسهم أصناف جديدة من القمح إلى البلاد، خلال سنوات الحرب، لا تتلاءم مع ظروف البيئة المحلية في “تراجع الإنتاج الزراعي بشكل واضح”، كما قالت المهندسة الزراعية كينا محمد علي، مشيرة في حديثها لـ”سوريا على طول” إلى أن الأصناف الجديدة انتشرت بين المزارعين كونها تباع بأسعار أقل من الأصناف المحلية.

اقرأ المزيد:  

وقالت علي من مكان إقامتها في مدينة المالكية (ديريك)، أن “تفاقم أزمة الجفاف والتغيرات المناخية في شمال شرق سوريا أدى إلى تدهور ملحوظ في جودة التربة الزراعية، إلى جانب انخفاض حاد في منسوب المياه الجوفية وتراجع كبير في المسطحات المائية”، وهو ما نتج عنه “صعوبات متزايدة في ري المحاصيل، وارتفاع كبير في تكاليف الزراعة، وانعكس سلباً على إنتاجية المحاصيل الأساسية مثل القمح والشعير، سواء من حيث الكمية أو الجودة”.

وفي وقت تعاني سوريا من شحّ المياه، يستخدم المزارعون أساليب الري التقليدية، التي “تؤدي إلى هدر كميات كبيرة من المياه”، ناهيك عن “ضعف كفاءة استخدام الأسمدة، سواء من حيث الكمية أو النوع، وهذا يؤثر سلباً على جودة المحاصيل وإنتاجيتها”.

في محافظة درعا، تشهد المحافظة تغيراً ملحوظاً في نمط توزيع الأمطار، حيث “صار في تأخير ببدء الموسم المطري وانحباس الأمطار مع بداية نيسان، وتتركز الهطولات في شهري كانون الثاني وشباط”، خلال السنوات الأخيرة، فيما سابقاً “كانت تستمر الهطولات المطرية في شهر أيار”، قال المهندس الزراعي محمد الخريبة، من مكان إقامته في ريف درعا الغربي.

وأضاف الخريبة لـ”سوريا على طول”، “الضرر واضح وكبير في الزراعات البعلية، والتي يكاد يكون إنتاجها صفر، بإستثناء الأراضي يلي ظروف زراعتها العام الماضي جيدة، من قبيل تلك التي كانت مزروعة بالخضروات وظلت تروى حتى شهر كانون الأول، أو الأراضي المرتاحة التي لم تزرع في العام السابق، وتم حرثها بشكل جيد ثلاث مرات”.

يمكن ملاحظة آثار الجفاف بشكل واضح على الغطاء النباتي في الأراضي الزراعية بعموم سوريا، لا سيما شمال شرق سوريا، التي تمثل أحد أهم السلال الغذائية، وسهول حوران في جنوب البلاد، ويعود ذلك إلى قلة الهطولات المطرية، بحسب المهندس الزراعي الخريبة، إذ “مع سقوط الأمطار تبدأ بذور الأعشاب بالغطاء النباتي الطبيعي بالنمو، لكن بسبب قلة الأمطار هذا الموسم لم تصل هذه الأعشاب إلى مرحلة الإزهار وتكوين البذور من جديد”، حيث تجف هذه النباتات قبل مرحلة البذور، وهو ما يعني أن “النبات مات قبل ولادته”.

وقال الخريبة: “بالتأكيد تبقى هناك بذور في التربة، لكن إذا استمر الجفاف خلال السنوات القادمة فإن هذه البذور سوف تنتهي وينتج عنه  تدهور الغطاء النباتي”.

فلاح يعاين سنابل القمح في أرضه بقرى جبل كوكب شرق الحسكة، 10/ 06/ 2025، (سوزدار محمد/ سوريا على طول)

العزوف عن الزراعة؟

بعد الخسائر الكبيرة التي تكبدها المزارعون هذا الموسم، تعتمد خطتهم للعام القادم على “الهطولات المطرية”، بحسب العودة الله، مشيراً إلى عدم وجود حلول أمامهم، خاصة في الزراعة البعلية، التي يعتمد عليها “الشريحة الأوسع من المزارعين في حوران”.

وقال العودة الله: “المحاصيل التي نزرعها من القمح والشعير، هي المحاصيل المعتادة تاريخياً والناجحة في سهل حوران، كونها تتناسب مع طبيعة أرضه ومناخ المنطقة، لذلك لا فائدة من تغيير المحاصيل”.

في المقابل، يفكر السويداني، الذي يعتمد على الزراعة المروية، بـ”تغيير المحاصيل أو التوقف عن الزراعة المروية والتحول إلى زراعة أصناف بعلية مناسبة، إذا بقي الوضع الراهن على ما هو عليه في الموسم المقبل”، كما قال.

تقدر مديرية زراعة درعا إنتاج القمح للموسم الحالي بقرابة 15 ألف طن من القمح المروي، بينما البعلي “صفر”، مقارنة بـ 104 ألف طن من القمح العام الماضي، موزعة: 30 ألف قمح مروي، و74 ألف طن قمح بعلي.

ما يعني أن نسبة إنتاج الموسم الحالي 14 بالمئة مقارنة بالعام الماضي، بحسب أرقام حصلت عليها “سوريا على طول” من المديرية.

وبالتالي، بلغت خسائر القمح المروي 50 بالمئة، بينما المحصول البعلي من القمح والشعير كانت خسارته كاملة بنسبة 100 بالمئة، كما قال متحدث باسم المديرية لـ”سوريا على طول”، مشيراً إلى أن المحاصيل البعلية استخدمت للرعي “ولم يتم تقديم أي دعم حكومي للمزارعين”، وأن “قرار التعويض هو قرار مركزي”.

من جهتها، قدمت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) دعماً مالياً لحوالي 600 من مزارعي القمح المروي في درعا، وفقاً المتحدث.

أمام الجفاف والتغير المناخي، وضعت مديرية الزراعة في درعا “مقترح خطة إنتاجية للموسم القادم تراعي الجفاف، وتعتمد على زراعية محاصيل ذات احتياج مائي أقل وأصناف تتحمل الجفاف”.

وفيما يخص جودة الإنتاج هذا العام، قال معمر عرار، تاجر حبوب في مدينة نوى غرب درعا، أن “جودة المحصول هذا العام متردية”، مرجعاً ذلك إلى انتشار حشرة السونة، التي تسببت إلى جانب نقص الأمطار بخسائر كبيرة في محاصيل القمح.

ومع ذلك “لم تقم الوحدات الزراعية والإرشادية بمهامها بشكل صحيح هذا العام، من قبيل إطلاق حملة لمكافحة حشرة السونة، كما أنها لم تقم بتوعية الفلاحين بضرورة مكافحة هذه الحشرة”.

وينعكس تردي جودة المحصول على الفلاحين بالدرجة الأولى، لأنهم سوف يواجهون صعوبة في “توريد القمح إلى الصوامع الحكومية، التي تشترط مواصفات جودة محددة”، كما قال عرار لـ”سوريا على طول”، لافتاً إلى أن “نسبة كبيرة من محصول القمح يتم رفضه لعدم مطابقته للمواصفات والمعايير”، وهذا يعني طرح المحاصيل في السوق بـ”أسعار منخفضة”.

وطالب عرار الجهات المعنية بـ”مراعاة وضع الفلاح هذا الموسم لأن الخسائر فادحة، وأن يكون هناك نسبة سماح أثناء تحليل عينات القمح بحيث يتم غض النظر عن نسبة من إصابة [حشرة] السونة”، مقدراً النسبة المصابة بنحو 20 بالمئة من إجمالي إنتاج درعا لهذا العام.

آثار الجفاف

خلال سنوات الحرب تعرض القطاع الزراعي إلى أضرار كبيرة وتعديات واسعة، وهو ما جعله “هشاً” وغير قادر على مواجهة أي صدمات جديدة من قبيل الجفاف وآثار التغير المناخي.

يعتمد المزارعون السوريون بالدرجة الأولى على الزراعة البعلية، حيث الأراضي الزراعية البعلية 78 بالمئة من مساحة الأراضي المزروعة عام 2022، بينما تتركز الأراضي المروية على طول نهر الفرات، الذي منسوبه بسبب تحكم تركيا بمياهه.

ورغم أن التغير المناخي ظاهرة عالمية، إلا أن “سوريا ودول الحوض الشرقي للمتوسط تتأثر بشكل أكبر من هذه الظاهرة”، قال الدكتور عبد الرحمن شريدة، الخبير باستخدام تقانات هيدرولوجيا النظائر على الأحواض المائية من محافظة درعا، كون “دول الحوض الشرقي للمتوسط يزداد فيها التغير المناخي عن بقية دول العالم بحوالي 30 بالمئة، كما أشارت دراسات عالمية”، مرجعاً ذلك إلى “توقف مسارات الجبهات المولدة عند حدود اليونان من الناحية الغربية، وعند حواف المحيط الهندي من الناحية الشرقية”.

“منذ تسعينيات القرن الماضي بدأ الموسم المطري بالانزياح، وتناقصت معدلات الأمطار، بحيث أصبح كل من أيلول وتشرين الأول وتشرين ثاني أشهر شبه جافة، بعدما كانت تشكل 30 بالمئة من المعدل العام، فيما تتركز كميات الأمطار في كانون الثاني وشباط”، كما أوضح شريدة لـ”سوريا على طول”.

وكذلك، تغيرت الغزارة (الشدة المطرية) بشكل واضح، إذ “أصبحت الزخة المطرية قصيرة، وهذا له انعكاسات سلبية على عمليات الرشح ورفد المياه الجوفية، وكذلك على المواسم الزراعية (القمح والشعير)”، وفقاً لشريدة.

بالتوازي مع الآثار المناخية التي لحقت بالأمطار، فإن زيادة درجات حرارة الهواء والتربة تعد أبرز انعكاسات التغير المناخي، التي تتسبب في “زيادة التبخر بشكل كبير، ما يؤدي إلى إجهاد كبير على رطوبة التربة، وبالتالي إجهاد على الغطاء النباتي”.

يمكن ملاحظة آثار الجفاف هذا العام بشكل واضح على المسطحات المائية الطبيعية والصناعية في محافظة درعا، إذ منسوب المياه في السدود بشكل ملفت.

وقال المهندس هاني العبد الله، مدير مديرية الموارد المائية في درعا، أنه “نتيجة قلة الهطولات المطرية لهذا العام، التي سادت أغلب محافظات القطر ومحافظات المنطقة الجنوبية، انعدم المخزون في كافة سدود حوض اليرموك في درعا لهذا العام”.  وأضاف العبد الله في حديثه لـ”سوريا على طول”: “إن الواردات المائية للسدود اقتصرت على المياه المدورة في بعض السدود من العام الماضي”. مشيراً إلى أن “نسبة التخزين في سدود محافظة درعا هذا العام لم تتجاوز 4 بالمئة من حجم التخزين الكلي”.

“من خلال تتبع الوضع المائي في المحافظة ومراقبة وقياس غزارة الينابيع بشكل خاص وكذلك الهطولات المطرية السنوية، لوحظ تراجع كبير في غزارات الينابيع وهبوط ملحوظ في مناسيب المياه الجوفية بدءاً من نهايات القرن الماضي”، بحسب العبد الله، وترافق هذا التراجع “مع دورة جفاف مناخي وانخفاض كميات الهاطل المطري خلال العقود السابقة بشكلٍ كبير وكذلك خلال هذا العام بشكل ملحوظ، حيث لم يتجاوز معدل الهطول المطري 30 بالمئة هذا العام في أغلبية المناطق”.  وانعكس ذلك بشكل واضح على مياه الشرب في معظم التجمعات السكانية، بعد أن جفت العديد من ينابيع الشرب، مثل: عيون العبد، زيزون، الساخنات الكبرى والصغرى، وتراجعت غزارة ينابيع أخرى، مثل: الأشعري، عين ذكر، الصافوقية، وغزالة. إضافة إلى هبوط مناسيب المياه الجوفية  في الآبار وجفاف قسم منها، قال العبدالله.

بدوره، أشار الخبير المائي شريدة إلى وجود “علاقة مباشرة بين التغيرات المناخية والموارد المائية”، أي أن “الجفاف يعني أن كمية المياه الرافدة للمياه السطحية والجوفية معدومة عملياً، وهذا يؤدي إلى جفاف الكثير من الأودية والينابيع وإجهاد كبير واستنزاف المياه الجوفية”.

وفي محاولة للحد من آثار الجفاف، عملت مديرية الموارد المائية في درعا على وضع خطة لـ”إسعاف الزراعات الشتوية عبر تأمين عدة ريّات لها، وأهمها محصول القمح والبطاطا والزراعات العلفية والزراعات الباكورية، وذلك مما توفر من مخزون سدود درعا”، بالإضافة إلى “استجرار كميات من المياه من سدود محافظة القنيطرة”، وفقاً للعبد الله.

وأضاف: “نقوم بتعديل الخطة الزراعية وفق الموارد المائية المتاحة، والتنسيق مع اتحاد الفلاحين في درعا من أجل عدم تنفيذ أي زراعات صيفية على شبكات ري السدود، بالتوازي مع تنفيذ حملة على التعديات المائية والكهربائية [من الأهالي] في المنطقة الغربية من درعا، بغية تحسين وضع الكهرباء المغذية لمحطات ضخ مياه الشرب والري، والحفاظ على استمرارية الضخ للاستفادة ما أمكن من الموارد المائية المتاحة”.

أرض زراعية في قرى جبل كوكب شرق الحسكة، مزروعة بالقمح البعلي، الذي لم ينبت بشكل جيد بسبب شح الأمطار، 10/ 06/ 2025، (سوزدار محمد/ سوريا على طول)

مواجهة الجفاف

“إن محدودية التخطيط الاستراتيجي وضعف الاستجابة لتحديات المناخ، كالجفاف الشديد، من أبرز العقبات”، بحسب المهندسة كينا محمد علي، إذ “لا توجد خطط واضحة للتأقلم مع التغيرات المناخية أو لتعزيز الزراعة المستدامة، ما يضع المزارعين أمام تحديات متراكمة تتفاقم عاماً بعد آخر”. 

في ظل هذا الواقع، “تبرز الحاجة الملحة إلى التحول نحو أنظمة الزراعة المستدامة، خاصة في بيئة تتسم بندرة الموارد المائية وقسوة الظروف المناخية”، قالت علي، مشددة على ضرورة “تبني استراتيجيات زراعية مبتكرة تُراعي الاستخدام الأمثل للمياه والتربة، مع إعادة تقييم الطرق التقليدية في الزراعة، واعتماد ممارسات فعّالة تعزز الإنتاجية الزراعية دون الإضرار بالبيئة، ما يضمن استمرارية الزراعة وأمن الغذاء على المدى البعيد”.

تلعب الأنظمة الزراعية المستدامة “دوراً محورياً” في التخفيف من آثار الجفاف ومواجهة تحديات تغير المناخ، وذلك من خلال “اعتماد ممارسات زراعية مدروسة قائمة على الاستخدام الأمثل للموارد، إلى جانب رفع مستوى الوعي لدى المزارعين بأهمية الاستدامة في الزراعة”، وفقاً لها.

وأضافت: “يجب توفير الدعم الفني والمالي للمزارعين، واعتماد تقنيات الري الحديثة الموفرة للمياه، اللذان يسهمان في تعزيز القدرة على الاستمرار في الإنتاج رغم شح الموارد”. إضافة إلى ضرورة “تشجيع التنوع البيولوجي، واستخدام المبيدات الطبيعية والمواد العضوية بطرق فعالة لأنها من بين الأدوات الأساسية التي تُحسّن من صحة التربة وجودة المحاصيل”.

في ظروف الجفاف “نبحث عن محاصيل زراعية احتياجها المائي منخفض جدا، لكن المحاصيل المعتادين عليها هي القمح والشعير، وهي فعلاً ذات احتياج مائي منخفض، قال المهندس الزراعي الخريبة، لذا “يجب يجب إجراء أبحاث جديدة في مراكز البحوث السورية لاستنباط أصناف جديدة مقاومة للجفاف أكثر، بحيث يمكن للبذور النمو في حالة كان الهاطل المطري قليل مثل هذا العام”.

وتوقع الخريبة أن يركز المزارعون في العام القادم على الشعير “كونه يتحمل الجفاف أكثر من القمح، إلا إذا تم تقديم أصناف قمح جديدة مقاومة للجفاف”.

أيضاً، لا بد من “تخفيف آثار التغيير المناخي عبر تقليل التلوث الحاصل من عوادم السيارات والصناعات والمصانع، الذي يتسبب في احتباس حراري وارتفاع درجات الحرارة”، وكذلك “يجب إيقاف الاستنزاف العشوائي للمياه الجوفية عبر الحفر العشوائي للآبار الارتوازية، خاصة تلك التي تحفر في محيط الينابيع ومصادر المياه الطبيعية”، بحسب الخريبة.

ودعا الخريبة الحكومة السورية العمل على خارطة “حصاد مياه الأمطار عبر إقامة سدات وبحيرات صناعية على مجاري السيول والاستفادة من الهطولات المطرية الغزيرة، التي قد تحدث في بعض أجزاء البلاد، للاستفادة من المطر عبر تخزينه من أجل استخدامه لاحقاً بالزراعة”.

وضرب الخريبة مثالاً عن الحصاد المائي المنزلي، الذي يقوم به بعض السكان في الأردن، التي تعاني من شح في المياه. إذ يقوم السكان بتحويل مياه الأمطار المجمعة عبر أسطح منازلهم إلى خزان مائي أرضي، للاستفادة من المياه المجمعة في عمليات الغسيل والشطف وسقاية النباتات.

وأوصى المهندس الزراعي من الرقة عبود إبراهيم، المزارعون باستخدام “تقنية الري بالتنقيط، أو الري بالرذاذ منخفض الضغط لتقليل هدر المياه”، كما نصح المزارعين “باستخدام جداول زمنية ذكية للري بناء على رطوبة التربة والنمو الفسيولوجي للمحصول”.

مشاركة المقال: