في حين بادر الجانب اللبناني مراراً إلى التواصل الإيجابي مع السلطات السورية الجديدة، وحدد موعداً لزيارة وزارية إلى دمشق لم تتم، يبدو أن مقاربة الجانب السوري تتسم بنظرة سلبية تجاه لبنان بشكل عام.
تتجلى هذه النظرة في التصريحات السورية المتكررة من شخصيات محسوبة على هيئة تحرير الشام والرئيس المؤقت أحمد الشرع، حول ضرورة «معاملة لبنان بالمثل». وتظهر أيضاً في حوارات الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني مع الموفدين الدوليين والدبلوماسيين الأجانب، وفي الهجوم المتكرر على لبنان، بالإضافة إلى إلغاء الزيارات السورية إلى بيروت بعد تحديدها.
تشجع السعودية وأميركا ودول غربية لبنان على تطوير العلاقة مع الجانب السوري والتقرب من السلطات الجديدة، لتفادي التوترات في الملفات المعقدة بين البلدين، خاصة في المناطق الحدودية وملف النازحين وتراكمات الحرب السورية، ولتحسين صورة النظام الجديد بالعلاقة مع لبنان، ولا سيما بعد الهجمات التي تعرضت لها الأقليات المختلفة من قبل جماعات مسلحة محسوبة على السلطة الجديدة من ضمنها الأمن العام السوري.
تسعى السعودية إلى ضبط إيقاع العلاقة اللبنانية ـــ السورية ورعايتها تحت مظلتها كجزء من ساحة النفوذ العربي بعد التراجع الإيراني، في مواجهة المحاولات التركية للهيمنة على العلاقات الثنائية السورية مع لبنان والعراق والأردن، وهو ما ظهر بشكل واضح في مؤتمر مكافحة «داعش» في الأردن، الذي حاولت تركيا الاستحواذ على إدارته. بينما تعمل واشنطن على الاستفادة من التحوّلات وإنهاء ملف الحدود لمرة واحدة ونهائية، ومن ضمنها تثبيت سوريّة مزارع شبعا واستخدامها ورقة لإنهاء ملف المقاومة وتوقيع اتفاق سلام بين لبنان وسوريا وإسرائيل، لتحقيق إطباق أميركي على كل المنطقة.
وإن كان النظام السابق وحتى الحكم السوري ما قبل حقبة حكم البعث، ينظر إلى لبنان كجزء من سوريا وساحة نفوذ أساسية لدمشق، فإن نظرة الشرع وفريقه إلى لبنان لم تأخذ بعد ملامحها الواضحة، لكنها لن تكون مختلفة، خصوصاً أن هناك بعداً دينياً، وستكون سلطة دمشق أمام امتحان حول طبيعة نظرتها إلى لبنان وشعبه ككلّ، وليس إلى جماعاته وطوائفه كما هو حال الشرع مع الشعب السوري.
في المقابل، تبدو السلطات اللبنانية الحالية متهيّبة إزاء إعادة مشاهد الماضي بالهيمنة السورية على القرار اللبناني، من دون أن يعني ذلك مصداقية لأيّ كلام حول قرار غربي أو عربي بإعطاء توكيل للشرع بإدارة لبنان، حيث يعرف الجميع أن الشرع بالكاد يسيطر على دمشق فكيف سيكلّف بإدارة لبنان بكل تعقيداته ومخاطره وخصوصيته والنفوذ الدولي والإقليمي فيه؟
لا يبدو فريق الشرع متحمّساً لرفع مستوى التنسيق مع لبنان، فيما الجمود يسيطر على ملفَّي النازحين والحدود.
بالنسبة إلى ملف الحدود، تبدو المسألة شديدة التعقيد نظراً إلى التداخل التاريخي والاجتماعي بين الجانبين. وحتى الآن لم يحصل أي تقدّم يُذكر منذ لقاء وزيرّي الدفاع ميشال منسى ومرهف أبو قسرة في السعودية برعاية وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان. وعدا «الإعلانات السورية» المتكرّرة عن ضبط سلاح متوجّه إلى حزب الله، والهدف من ذلك تصفية حساب قديم مع الحزب، لكنّ الأهم هو إرضاء الأميركيين والإسرائيليين، خصوصاً أن بعض الغربيين سبق أن أكّدوا للشرع أن لدى حزب الله مخططات عدائية تجاهه.
وخلاف هذا الجانب، فإن حركة تهريب البضائع عبر الحدود مستمرة، لكن تعديلات طرأت على خطوط التهريب، حيث انتقل النشاط في منطقة الهرمل إلى عكار ومناطق البقاعيْن الأوسط والغربي. فضلاً عن أن أزمة القرى اللبنانية في الداخل السوري لا تزال مستمرة مع الفوضى الأمنية في حمص وريفها.
أمّا ملف النازحين السوريين، فيمثّل أبرز الأزمات، حيث يُخفي فريق الشرع نواياه بشأن المعالجة، ويعطي في المقابل إشارات إلى أنه سيستخدمه ورقة ضغط في المستقبل. وفي حين أنجز لبنان خطته لإعادة النازحين برعاية المفوّض العام الأممي لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي (زار بيروت ودمشق قبل ثلاثة أسابيع)، فإن حكومة الشرع لا تظهر أي حماسة تجاه حلّ هذا الملف، سيما مع استمرار الصعوبات المالية والاقتصادية والأمنية التي تعانيها سوريا ووجود مدن ومناطق مدمّرة بأكملها. فضلاً عن أن الأجواء الدولية غير مشجّعة للمساعدة على العودة بشكل فاعل مع غياب خطط التمويل الجدّية وتراجع قيمة المرصودات لبرامج المؤسسات الأممية.
وهي مشكلة اعتبرها غراندي عائقاً أساسياً أمام عودة النازحين، علماً أن دمشق، كانت تخطّط لعقد اجتماع لدول الجوار، ووجّهت الدعوات إلى تركيا والعراق والأردن مع استثناء لبنان، إلا أنها عادت وتراجعت عن عقد الاجتماع بعد تحديد موعده مرتين، ربّما للأسباب ذاتها التي توقّف لأجلها مؤتمر مكافحة «داعش» وسط تجاذب تركي ـــ سعودي حول سوريا.
إلا أن أخطر الملفات وأعقدها، هو الملفّ الأمني، بسبب استمرار الفوضى الأمنية وأعمال القتل والخطف والتهجير خصوصاً في مناطق حماه وحمص والساحل السوري. وهي أمور تضيف أعباء أمنية كبيرة على لبنان وتدفع إلى تدفّق المزيد من النازحين، ولا سيما من العلويين والشيعة والمسيحيين وعناصر الجيش السابق. ويتزامن ذلك مع انفلاش التنظيمات التكفيرية ولا سيما تلك التي تضمّ مقاتلين أجانب ومقاتلين سوريين ينظرون بعدائية تجاه التنوّع الديني والمذهبي السوري، الذي يمتد إلى لبنان في مناطق الشمال والبقاع، وسبق أن قاتل بعض هؤلاء ضد حزب الله والجيش اللبناني ولا يزالون يكنّون العداء الحادّ.
وتزداد المسألة صعوبة بسبب تداخل تلك التنظيمات مع التشكيلات الرسمية لوزارة الدفاع السورية، كون معظم هؤلاء العناصر يحملون أفكاراً متطرّفة أيضاً. ويترافق ذلك مع عودة «داعش» ومجموعات متطرفة أخرى إلى العمل في سوريا وفي لبنان أيضاً. وكلها أمور تتطلّب تنسيقاً جدياً ليس مع الشرع وأجهزته وحسب، بل أيضاً مع أجهزة الدول العربية والغربية الراعية للشرع، لتفادي تحوّل لبنان إلى ساحة تصفية حسابات إن كان بين التنظيمات الجهادية نفسها، أو بين التنظيمات واللبنانيين على مختلف انتماءاتهم.
وتزيد الدعوات السياسية من بعض الشخصيات ورجال الدين اللبنانيين للشرع بالتدخّل في الشأن اللبناني، المخاطر من نتائج مثل هذه الدعوات على المناطق الحدودية، وعلى الأجواء السياسية والأمنية بشكل عام في الساحة السنيّة، التي تتجاذبها الكثير من العوامل وسط ملامح صراع تركي ـــ عربي جديد.