تسببت أزمة المياه في فرض نمط حياة جديد على سكان ريف إدلب الجنوبي العائدين إلى قراهم، حيث يعتمدون على ترشيد الاستهلاك وتحمل تكاليف شراء المياه الباهظة.
إدلب- باتت صهاريج المياه تجوب مدن وقرى ريف إدلب الجنوبي بشكل ملحوظ، مما يعكس أزمة مياه حادة تعاني منها المنطقة بعد عودة آلاف النازحين منذ سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024.
عادت بسمة أم أحمد، المعيلة الوحيدة لعائلة مكونة من خمسة أفراد، إلى بلدة كفرعويد في ريف إدلب الجنوبي في حزيران/ يونيو الماضي، لتنهي سنوات النزوح في ريف المحافظة الشمالي، لكن معاناتها مستمرة. فالمياه تشكل "التحدي الأكبر" بالنسبة لأم أحمد، إذ تحتاج عائلتها 20 برميلاً من المياه كل عشرة أيام، بتكلفة 600 ليرة تركية (15 دولاراً تقريباً)، وهو مبلغ كبير عليها بعد وفاة زوجها عام 2021، واعتمادها على "خمسة دونمات مزروعة بأشجار التين، وتبلغ قيمة إنتاجها السنوي 1500 دولاراً، بحسب كمية الإنتاج وسعر السوق"، كما صرحت لـ"سوريا على طول".
تعتبر عائلة أم أحمد واحدة من بين 1350 عائلة عادت إلى كفرعويد بعد سقوط الأسد، في حين لا يوجد في البلدة سوى بئر واحدة تنتج 25 صهريجاً يومياً، وهو رقم لا يسد احتياجات أكثر من 50% من السكان، وفقاً لفرج مغلاج، رئيس المجلس المحلي.
نزحت أم أحمد إلى مخيم أم الشهداء في تجمع مخيمات أطمة بريف إدلب الشمالي عام 2019، حيث كانت تسكن في غرفتين مسقوفتين وتتوفر المياه مجاناً بمعدل خزان سعة خمسة براميل كل 48 ساعة، وحتى في فترات انقطاع الدعم عن المخيم، كانت تكلفة تعبئة الخزان 50 ليرة (1.25 دولاراً)، بحسب قولها.
بعد عودتها إلى منزلها في كفرعويد، الذي تبلغ مساحته 250 متراً، اضطرت إلى ترشيد استهلاك المياه، وتستخدم حالياً إناءً (إبريقاً) بدلاً من صنابير المياه لتقدير كمية المياه التي يجب أن تصرفها. كما أنها لم تزرع الورود والنباتات في فناء منزلها وبجواره، كما كانت تفعل قبل النزوح، لأنها "تحتاج إلى سقاية وصرف زائد".
بدأت أزمة المياه في ريف إدلب الجنوبي منذ السنوات الأولى للثورة السورية، عندما تعرضت العديد من محطات المياه الحكومية والآبار الخاصة للقصف، لا سيما مشروع خط اللج بريف إدلب الجنوبي، الذي خرج عن الخدمة عام 2013 بسبب القصف وسرقة تجهيزاته، وهو يخدم عشرات البلدات في جبل الزاوية، كما أوضح المهندس عيسى كبيش، مدير الدراسات في المؤسسة العامة لمياه إدلب.
وبعد سيطرة النظام على أجزاء واسعة من ريف إدلب الجنوبي خلال معارك عام 2019، تعرضت البنى التحتية، بما في ذلك محطات المياه وشبكاتها، لعمليات نهب وتخريب، مما أدخل عشرات القرى، لا سيما منطقة جبل الزاوية، في أزمة عطش تفاقمت بعد تحرير سوريا وعودة أكثر من 91 ألف شخص إلى مناطقهم الأصلية في ريف إدلب الجنوبي، بحسب عبد الرحمن جنيد، معاون مدير الشؤون الاجتماعية والعمل في إدلب.
أشار كبيش إلى أن نسبة تغطية المؤسسة "محدودة، لأن شبكات الضخ وشبكات المياه في القرى تضررت أضراراً جسيمة، وهي بحاجة إلى إعادة تأهيل شاملة".
وبينما فرضت أزمة المياه على الأهالي نمطاً جديداً من الحياة يقوم على تقنين الاستهلاك وتحمل أعباء شراء المياه بتكاليف مرتفعة، أوجد هذا الواقع فرص عمل جديدة للعائدين، كما هو حال سامر العيسى، الذي اشترى سيارة وزودها بخزان سعة 25 برميلاً، ويحقق دخلاً شهرياً من بيع المياه بنحو 400 دولار أميركي.
لطالما شعرت بسمة أم أحمد بالحنين إلى منزل العائلة وأرضها الزراعية، مصدر الرزق الوحيد. ومع سقوط النظام الأسد، فكرت بالعودة، لكن سوء الخدمات في بلدتها منعها. في المقابل، بدأ قاطنو مخيم أم الشهداء بالعودة تدريجياً إلى مواطنهم الأصلية، حتى وجدت أم أحمد نفسها مع عائلتين فقط في المخيم، فقررت العودة إلى كفرعويد، متحملة عناء وتكاليف تأمين المياه.
أيضاً، عندما عاد محمد خليل رفقة زوجته وأطفاله الثلاثة إلى بلدة كنصفرة بريف إدلب الجنوبي في أواخر أيار/ مايو الماضي، وجد نفسه في دوامة البحث عن المياه، التي كانت متوفرة مجاناً في المخيم الذي حمل اسم القرية ذاتها في بلدة البرتقلي بريف إدلب الشمالي.
في المخيم، "كانت المياه تضخ بمعدل ساعتين كل خمسة أيام، وهو وقت كاف لتعبئة خزان سعة عشرة براميل"، بينما حالياً يجد نفسه "مضطراً لشراء المياه من الصهاريج كل خمسة عشر يوماً".
"أدفع 700 ليرة تركية [17.5 دولاراً] مقابل صهريج سعته 27 برميلاً، قادماً من مدينة كفرنبل التي تبعد 7 كيلومترات عن قريتي"، مشيراً إلى أن هذه الكمية لا يتجاوز سعرها 270 ليرة تركية [6.75 دولاراً] في ريف إدلب الشمالي".
اتخذ خليل قرار العودة إلى قريته، رغم علمه بأزمة المياه، لأنه كان يضطر إلى قطع مسافة 100 كيلومتر من أجل الوصول إلى أرضه الزراعية، وهو مبلغ "يمكن إنفاقه على شراء المياه، مقابل السكن في منزلي والعمل في أرضي".
إلى الجنوب من كنصفرة وكفرعويد، يعتمد سكان قرية الشيخ مصطفى في جنوب إدلب على الصهاريج القادمة من بلدة النقير، التي تبعد نحو أربعة كيلومترات. رغم الدمار الواسع الذي حل بقرية الشيخ مصطفى، قرر أحمد عبد الله عنان العودة مع عائلته، وهي من أصل 130 عائلة عادت حتى الآن، فيما يبلغ عدد العائلات الكلي حوالي 650 عائلة، مشيراً إلى أن العديد من العائدين "فضلوا توفير ما كانوا يدفعونه إيجار سكن، الذي يتراوح بين 50 و150 دولاراً شهرياً، ودفعه في ترميم منازلهم بأنفسهم وشراء المياه".
ويختلف سعر صهريج المياه بحسب المسافة المقطوعة ونوع الاستخدام، إن كان لمياه الشرب أو لريّ الأشجار، التي تعرضت للإهمال منذ عام 2019، كما ذكرت عدة مصادر محلية.
يعتمد سكان أرياف إدلب، لا سيما الريف الجنوبي، على تجميع مياه الأمطار خلال فصل الشتاء في خزانات أرضية مخصصة لهذا الغرض، حتى لا يكاد منزل إلا وفيه خزان أرضي. بنى محمد خليل منزله في عام 1988، وجهّزه بخزان أرضي يستوعب حوالي ألف برميل، وكان يتوقع أن يجد فيه كميات جيدة من المياه عند عودته هذا العام، لكنه فوجئ بأن "الخزان فارغ تماماً بسبب الجفاف".
وبما أن عودته تزامنت مع دخول فصل الصيف، فهذا يعني أنه لن يستفيد منه لتجميع مياه الأمطار خلال هذه الأشهر، وإنما لتجميع مياه الصهاريج فيه كلما أتيحت له فرصة التعبئة، لأنه في إحدى المرات انتظر ثلاثة أيام حتى تمكن من تأمين صهريج "بسبب الطلب المرتفع وعدم قدرة مصادر المياه في المنطقة على الاستجابة".
في المقابل، لجأ بعض العائدين إلى ريف إدلب الجنوبي، الذين يمتلكون سيارات زراعية، إلى نقل المياه بأنفسهم عبر تحميلها بخزانات تتراوح حمولتها بين خمسة وعشرة براميل، وهذا يوفر عليهم الوقت ومصاريف النقل، مشيراً إلى أن سعر البرميل الواحد من دون نقله 10 ليرات تركية (0.25 دولاراً).
من جهته، اعتمد المجلس المحلي في بلدة كفرعويد على خطة مبدئية من أجل توزيع مياه البئر الوحيدة على السكان، تقوم على تقسيم العائلات إلى عدة مجموعات، وكل مجموعة تحصل يومياً على عدد من الصهاريج، بمعدل صهريج لكل خمسين عائلة، وبسعر عشرة ليرات تركية للبرميل، بحسب مغلاج، رئيس المجلس.
بالتوازي مع ذلك، تجري عمليات صيانة الآبار الخاصة القديمة وحفر آبار مياه جديدة "عشوائياً" في جنوب إدلب، وتباع مياهها بسعر عشرة ليرات تركية للبرميل الواحد، وهو سعر منخفض مقارنة بأسعار المياه المنقولة من مناطق أخرى.
توجد في قرية الشيخ مصطفى محطة مياه حكومية، كانت تغذي القرية والقرى المجاورة لها، مثل النقير ومعرزيتها، وتعتمد المحطة على أربعة آبار، لكنها خرجت عن الخدمة نتيجة تعرضها للقصف، بما في ذلك "الخزان العالي"، ومن ثم النهب بعد دخول النظام إلى المنطقة عام 2019، مقدراً تكلفة إعادة تأهيل الآبار فقط بأكثر من مئة ألف دولار أميركي.
وتعاني بلدة الفطيرة في ريف إدلب الجنوبي – التي عاد إليها نحو ألفي نسمة بعد سقوط النظام، من أصل تسعة آلاف وهو العدد الإجمالي – من أزمة حادة في تأمين مياه الشرب، إذ يعتمد سكانها بشكل كامل على صهاريج المياه القادمة من كفرنبل، التي تبعد عنها نحو عشرة كيلومترات.
اعتمدت البلدة لمدة ثلاث سنوات على بئر حُفرت على نفقة الأهالي عام 2017، قبل أن تتحول المنطقة إلى خط تماس مع قوات النظام عام 2019، ما أدى إلى نزوح السكان وتوقف البئر.
إعادة تشغيل البئر "ضرورة ملحة" لكنها بحاجة إلى تجهيزات كاملة، تشمل "الغاطس والتمديدات ومجموعة طاقة كهروشمسية ومولدة كهرباء"، بتكلفة إجمالية "تتجاوز 50 ألف دولار أميركي".
أمام هذا الواقع المتردي ومحدودية الإمكانيات، تعمل المؤسسة العامة لمياه إدلب على إعادة تأهيل وتشغيل البنية التحتية المتضررة، مع إعطاء الأولوية لمشروع مياه اللج باعتباره مشروعاً محورياً واستراتيجياً، مشيراً إلى أنه "تم التواصل مع عدد من المنظمات الإنسانية والدولية، وأُجريت زيارات ميدانية وتقييمات فنية ومالية للمشروع. وقد حصلت بعض هذه المنظمات على تمويل فعلي، ويتم حالياً التنسيق معها لتسريع وتيرة إعادة التأهيل".
وقال كبيش أن المؤسسة العامة لمياه إدلب "أولت اهتماماً كبيراً بمشروع محطات مياه اللج، واعتبرته من أولوياتها القصوى نظراً لأهميته الحيوية في تأمين مياه الشرب لجنوب إدلب، وقد جرى عقد سلسلة من الإجراءات والتقييمات والاجتماعات، أفضت إلى تأمين تمويل فعلي لتنفيذ أجزاء من المشروع"، وتُعتبر هذه الخطوات "جزءاً من خطة إسعافية شاملة تهدف إلى تحسين الوضع المائي تدريجيا".
وأضاف كبيش: "يظل التمويل من أبرز التحديات"، وهذا لا يقلل من "صعوبة تنفيذ مشاريع إعادة التأهيل في ظل الظروف الحالية والدمار الواسع".
وتتضمن قائمة المشاريع الضرورية لتحسين واقع المياه في محافظة إدلب: إعادة تأهيل منظومة محطات مياه اللج بشكل كامل، التي تخدم الريف الجنوبي، وتنفيذ مشروع محطات عين الزرقا، التي تخدم مدينة إدلب، وتحديث الأنظمة المائية باستخدام تقنيات تشغيل حديثة، بالإضافة إلى معالجة الأضرار الكبيرة التي لحقت بالبنى التحتية نتيجة الحرب.