منذ انتهاء العدوان الإسرائيلي على إيران، لم يتوقف القادة العسكريون والسياسيون الإيرانيون عن التحذير من استمرار انخراط أعداء الجمهورية الإسلامية في "حرب هجينة" ضد بلادهم، وذلك بسبب محدودية قدرتهم على مواجهة ما يعتبرونه "تهديدًا إيرانيًا" بالطرق العسكرية التقليدية.
و"الحرب الهجينة"، كما يصفها منظّرها الأول، المقدم في الجيش الأميركي بيل نيمت، هي "نموذج عصري لحرب العصابات، تستخدم فيها التكنولوجيا الحديثة لحشد الدعم المعنوي والشعبي". وهي تتضمن جزءًا كبيرًا من تكتيكات حروب الجيل الرابع، مثل استخدام أدوات "القوة الناعمة" كالعقوبات الاقتصادية والدبلوماسية، والعمليات التخريبية، والاغتيالات، بالإضافة إلى الجمع بين استخدام القوات العسكرية النظامية وغير النظامية، وشبكات من المرتزقة والجواسيس المحليين والأجانب.
تتقاطع هذه الحرب في جوانب عديدة مع شكل آخر أكثر تعقيدًا من الحروب، وهو حروب الجيل الخامس، خاصة فيما يتعلق بالتركيز على شن حملات تضليل سياسية وثقافية تستخدم تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي لتحريض الجماهير على التمرد ضد السلطات، تحت مسميات مختلفة، بهدف إعادة صياغة ما يمكن تسميته بـ"الهندسة الاجتماعية". وتشمل أيضًا شن هجمات سيبرانية تهدف إلى بث أجواء من الفرقة والفوضى، وصولًا إلى تقويض الثقة بالمؤسسات الحكومية، أو بمعنى آخر إسقاط النظام.
"خطة" زامير: إطار نظري لمشهدية العدوان
في ضوء ما سبق، وعلى غرار الاستراتيجيات العسكرية الإسرائيلية السابقة التي تركز على التقدم التكنولوجي والتفوق المعلوماتي والاستخباراتي، بدعم غربي واضح في مجالات الذكاء الاصطناعي واختراق أنظمة البرمجيات، أو في مجالات التضليل الإعلامي والحرب النفسية والإلكترونية، لم يكن غريبًا أن يعيد رئيس الأركان الجديد لجيش الاحتلال، إيال زامير، إحياء نسخته الخاصة من "الحرب الهجينة" للتعامل مع إيران.
تضمنت الخطوط العريضة لتلك النسخة دراسة للجنرال الإسرائيلي حين كان باحثًا في "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى" بين عامي 2021 و2022. في ورقته البحثية، التي تقع في 75 صفحة ونُشرت في أيار 2022 تحت عنوان: "مواجهة إستراتيجية إيران الإقليمية: خطة شاملة طويلة الأجل"، يصف زامير إيران بأنها تهديد لإسرائيل "يتجاوز مستوى التهديد التقليدي، وإن لم يصل إلى العتبة النووية"، ويحذر من سعيها للتحول إلى "قوة مهيمنة إقليمية" في منطقة تشهد صراعًا يمكن أن يتحكم في شكل النظام الإقليمي لعقود قادمة.
تتماهى دراسة زامير مع رؤية حكومة بنيامين نتنياهو حول المسار التفاوضي بشأن ملف إيران النووي، من حيث الترويج لمزاعم مفادها أن استعداد الجانب الإيراني لتقديم تنازلات، حتى لو شمل الموافقة على اتفاق يفرض قيودًا على برنامجه النووي، إنما تمليه اعتبارات "مرحلية" و"تكتيكية" تتعلق أساسًا بالرغبة في تحقيق مكاسب اقتصادية من الغرب، تساعده داخليًا وخارجيًا في استكمال "الحملة الإستراتيجية" ضد خصومه الإقليميين والدوليين، وهو ما يستدعي الحذر من التهاون مع الحكومة الإيرانية.
وانطلاقًا من تسليم زامير بأن "إيران لن تردعها الاتفاقيات أو التفاهمات، ما لم تواجه بحزم وردع صريحين"، وبأن "التصدي لمشروعها لا يمكن أن يتم عبر تدخلات موضعية أو إجراءات معزولة"، فإنه يدعو إلى رسم "نهج طويل الأمد متعدد المسارات والجبهات، تشترك فيه إسرائيل، إلى جانب الولايات المتحدة، وحلفائها من الدول العربية، قوامه توزيع للأدوار بينها بوضوح وفاعلية داخل إطار إقليمي منظم ومترابط، بالتوازي مع تسخير أدوات تنفيذية متكاملة ومتزامنة على المستويات كافة"، بحيث لا تقتصر على الجانب العسكري فحسب، بل تتعداه لتشمل أبعادًا دبلوماسية، واستخبارية، واقتصادية، وإعلامية، وأمنية، على أن يكون هدفها الأساسي إضعاف الحرس الثوري الإيراني، لما يمثله من مركز للثقل في النظام الإيراني، وإفقاده القدرة على إدارة علاقاته مع الحلفاء الإقليميين لطهران.
لا تهمل خطة الجنرال الإسرائيلي "حرب الأفكار"
من منظور زامير، فإن إدماج إسرائيل في القيادة الوسطى الأميركية وفر فرصة إستراتيجية لتأسيس تحالف مع عدد من الدول العربية، سواء في مجالات الاستخبارات والدفاع الجوي، أو في المجال السيبراني، في إطار مساعي تلك الدول لـ"موازنة" الحضور الإيراني الوازن على هذا الصعيد.
ومن الخلاصات الأساسية في دراسة زامير، هي دعوته إلى تبني ما يصفه بـ"نهج الانتقام الرادع المباشر"، والموجه بدقة لإحباط أي خطوة تتخذها طهران ضد خصومها – بدلًا من الحرب الشاملة -، إلى جانب السير في إجراءات لعزل حلفائها في المنطقة وقطع خطوط الإمداد عنهم، على أن يصار إلى دمج تلك الإجراءات ضمن حزمة أدوات إقليمية شاملة تتيح التعامل مع الجمهورية الإسلامية كـ"خصم إستراتيجي طويل النفس"، لا كـ"مجرد مصدر تهديد عابر". ويشمل ذلك العقوبات الاقتصادية، وتقويض القدرات السيبرانية لإيران، ومضاعفة عمليات التجسس والمراقبة ضدها، فضلًا عن توسيع اتفاقيات أبراهام، لما تمثله من "رافعة سياسية وإستراتيجية للضغط عليها، وتحجيم نفوذها الإقليمي".
كذلك، لا تهمل خطة الجنرال الإسرائيلي "حرب الأفكار"، والتي تستهدف تفكيك "الخطاب الأيديولوجي الإيراني" من الداخل، لا سيما في أوساط البيئة الشيعية، بالتوازي مع ما يدرجه في خانة "تعزيز البدائل الثقافية والدينية المعتدلة داخل تلك البيئات، عبر إبراز مزايا الإسلام المنفتح وقيم الديمقراطية المستقرة"، على حد زعمه.
"الحرب السرية"
من جملة ما تقاطع مع الجوانب العملانية في "خطة زامير"، تهديدات وجهها جيش الاحتلال إبان أيام الحرب، عبر الفضاءين الإعلامي والرقمي، إلى شخصيات سياسية وعسكرية إيرانية، إضافة إلى أكثر من 6 آلاف هجوم سيبراني طال الجمهورية الإسلامية، بعضها ضد القطاع المصرفي، وتبعتها هجمات مضادة، عكستها زيادة بنسبة 700% في الهجمات الإلكترونية ضد مصالح إسرائيلية، من ضمنها منصات حكومية، وبنى تحتية، وفق شركة الأمن السيبراني "رادوير". ويضاف إلى ما تقدم، شن هجوم مماثل على منصة "تروث سوشال" بعد دقائق معدودة من إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عبر المنصة نفسها، خبر قصف قواته للمنشآت النووية الإيرانية، إلى جانب "قصف سيبراني" لما لا يقل عن 15 مؤسسة أميركية و19 موقعًا إلكترونيًا.
كما ظهرت آثار الخطة الإسرائيلية المبينة أعلاه، في ما أشيع عن اعتقال إيران المئات من رعايا بلدان أجنبية كالهند – يعمل الآلاف من أبنائها في إيران وجميع أنحاء الخليج، في المجالات التقنية وقطاعات حساسة كالاتصالات والبنوك والمطارات والموانئ -، بتهم تراوحت بين "دعم وجمع معلومات للعدو والدعاية ضد النظام"، فضلًا عن "نشر الأكاذيب والشائعات بهدف الإضرار بالأمن الداخلي للبلاد" وبين "تعطيل الأمن النفسي للمجتمع".
وفي الإطار نفسه، نقلت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إن المعلومات الاستخبارية عن إيران، والتي استغرق تجميعها "سنوات طويلة"، مستقاة من مصادر عديدة كـ"الاستخبارات البشرية" و"المصادر المفتوحة"، فضلًا عن "أقمار صناعية تجارية" و"هواتف مخترقة" و"عملاء سريين جُندوا محليًا" بصورة سهلت إقامة "مستودعات سرية لتجميع الطائرات المسيرة"، و"الاستعانة بأنظمة أسلحة صغيرة ألصقت بالعربات العامة" على الأراضي الإيرانية.
ماذا في جعبة إيران؟
على الجانب الإيراني، ومع ما أظهرته السلطات من عزم على تعزيز إجراءاتها الاستخبارية المضادة، ومن قدرة على امتصاص صدمة الخرق الاستخباري الكبير إبان مدة الحرب، إلى جانب ما يشاع حول تخليها عن تعليق خدمات نظام تحديد المواقع العالمي الأميركي (GPS) كافة داخل أراضيها، واعتمادها رسميًا على نظام (BeiDou) الصيني، كجزء من توجهها إلى تعزيز "سيادتها الرقمية"، بالتعاون مع شركائها الإستراتيجيين الدوليين المناهضين للغرب، ثمة من يشير إلى تحولات جارية في كيفية مقاربة القيادة العسكرية للمواجهة مع الحلف الأميركي- الإسرائيلي، وفي إدارة التفاعلات السياسية داخليًا وخارجيًا، بالاستناد إلى ما أفرزته تجربة الحرب من مفاعيل في هذا الخصوص.
وبحسب مراقبين للشأن الإيراني، فقد حمل تعيين اللواء محمد باكبور، قائدًا لـ"الحرس الثوري"، خلفًا للواء حسين سلامي، دلالات في عدة اتجاهات، أولها دخول مؤسسة "الحرس" في "طور جيلي جديد"، يشمل ضباطًا وقادة من الجيل الخامس، حائزين على درجات علمية متقدمة في مجالات متعددة، كالهندسة، وتكنولوجيا المعلومات، والأمن السيبراني، ضمن توجه عام لدى المؤسسة للتركيز بصورة أكبر على تطوير أدوات الحرب الهجينة في المدة المقبلة، سواء على صعيد الحرب النفسية والإعلام الرقمي، أو على صعيد العمليات السيبرانية، وتكنولوجيا المسيرات، من دون إهمال البناء على خبرة إيران في الحرب اللامتماثلة.
يجمع باكبور في مسيرته العسكرية بين الجانب الأكاديمي، لكونه حائزًا على درجة الماجستير في الجغرافيا، وبين الخبرة العملية الواسعة، التي تعود إلى مدة الحرب العراقية – الإيرانية، حين تدرج في المناصب والرتب وصولًا إلى تعيينه قائدًا للفرقة "31 عاشوراء" ذائعة الصيت. ثم رفع بعد الحرب إلى مناصب أخرى، ليتولى في نهاية المطاف منصب قائد القوات البرية التابعة للحرس الثوري، فضلًا عن كونه يجمع في تكوينه الشخصي بين الخلفية الأيديولوجية، على نحو وضعه في خانة من يوصفون بـ"الحرس القديم"، وبين النهج البراغماتي في العمل بصورة جعلته يحظى بثقة القيادة لتولي مشروع تطوير "الحرس"، وتحسين وسائل وأدوات عمله.