في مقالي السابق المكون من جزأين بعنوان "زهرات فان غوخ حية في نيويورك" (النهار العربي 28 حزيران/يونيو والأول من تموز/يوليو 2025)، تحدثت عن معرض يقام حاليًا في نيويورك (حتى 26 تشرين الأول/أكتوبر المقبل) يعرض تشكيلات فنية مكبرة ولوحات "دوار الشمس" الخاصة به.
في الجزء الأول من هذا المقال، كتبت عن تخمينات حول تحليل نفسي ورمزي لما كان خفيًا في تعلقه بهذه الزهرة تحديدًا، والدافع السري لرسمها بشكل متكرر. في هذا الجزء الآخر، أستكمل الموضوع، مؤكدًا أنه لا بد أن يكون وراء رسمه لهذه الزهرة سر أو حدث ما.
امتد تأثير فان غوخ حتى القرن الحادي والعشرين، وبدا واضحًا على الرسام والنحات النمساوي الألماني آنسيلم كيفر (أحد أهم الرسامين المعاصرين، مواليد سنة 1945). ويقام حاليًا في "الأكاديمية الملكية للفنون" معرض (من 28 حزيران/يونيو الماضي إلى 26 تشرين الأول/أكتوبر المقبل) بعنوان "كيفر/فان غوخ"، يجمع أعمالهما معًا، ويظهر في أعمال كيفر تأثير فان غوخ أسلوبًا ومضمونًا. وتغزو أعمال كيفر لوحات عديدة لدوار الشمس، وأشهرها منحوتة داناي التي ترمز إلى زهرة دوار الشمس طالعة من رزمة كتب. وفي ركن آخر من المعرض، زهرة دوار الشمس طالعة من جسم إنسان، وهو ما يشير لزوار المعرض إلى تأثير زهرة دوار الشمس وفان غوخ على كيفر. وقد ساعد هذا النقاد على إيجاد الرمز السحري (أو تخمينه) بين كيفر وفان غوخ.
يرى جوليان دوميرك (مسؤول المعرض في الأكاديمية الملكية) أن زهرة دوار الشمس تقود إلى فان غوخ في جنوب فرنسا. وكان فان غوخ، في مطلع شبابه، يعمل مسوقًا للوحات، وبالتالي كان على دراية بتاريخ الفن، بدليل مقاربته زهرة دوار الشمس، في تقليد ألماني يرى في هذه الزهرة رمز الذبول واليباس. فمن أزهار دوار الشمس التي تنظر إلى فوق، إلى الفضاء، ومنها التي تذبل منحنية صوب التراب، مائلة إلى اللون البني الترابي، دليل التأمل في مرور الزمن والعمر إلى نهايته. ويرى دوميرك أيضًا أن لوحات كيفر عن دوار الشمس تعني المناخ ذاته، أي دورة الحياة من الولادة إلى الموت، عبر هذه الزهرة الجنوبية التي تبدأ شامخة إلى فوق ثم تنحني صوب التراب في دورة أيامها المعدودة.
يمكن تفسير جميع رموز الفن بتطور الأفكار والترابطات. ولمعنى دوار الشمس جذور في الماضي، استحوذت جدلًا طويلًا في أوساط العلم والإنسانيات. ولم يكن فان غوخ الأول في الشغف بتلك الزهرة، فقد أشعلت قبله أفكار الكثيرين من الكتاب والفنانين، منهم أنطوني فان دايك، ماريا فان أوسترفيك، وليم بلايك، أوسكار وايلد، دوروثيتا تاننغ، بول ناش، آلن غينسبورغ، وسواهم.
وتبقى زهرة دوار الشمس هي الأحدث إلهامًا بين سائر الأزهار، ذلك أنها ظهرت في الأرض الأميركية، ولم تدخل "العالم القديم" إلا بعد اكتشافات كولومبس والاستعمار الأوروبي في القرن السادس عشر. ومنذئذ باتت معروفة ولافتة ومنتشرة في أوروبا، واتخذت، من شكلها وتطلعها إلى فوق، رمزها واسمها "دوار الشمس".
في سنة 1568، قام عالم النبات جياكومو أنطونيو كورتوزو فربط هذه الزهرة بشخصية ميثولوجية قديمة هي كليتي، المرأة التي يقال إنها أغرمت بالإله أبولون المنسوب إلى الشمس. ولذا استطالت نزولًا من الفضاء حتى لامست الأرض فتحولت إلى زهرة دوار الشمس.
ومنذئذ بدأ الربط في الفن بين هذه الزهرة والإلهة كليتي، رمزًا للحب العاصف. ومن هنا تفسير لوحة ماريا فون أوسترفيك عن إناء في زهرة دوار الشمس تتطلع إلى الإلهة فينوس تستحم (1675). وفي لوحة بارتولوميوس فان دِر هِلْسْتْ تظهر امرأة شابة تحتضن زهرة دوار الشمس (1670) وهي ترمز إلى الزواج بما في تعابيرها من عشق وتعلق.