الإثنين, 14 يوليو 2025 12:38 AM

الساحل السوري يحترق: تحقيق استقصائي في أسباب حرائق اللاذقية وتداعياتها البيئية والاقتصادية

الساحل السوري يحترق: تحقيق استقصائي في أسباب حرائق اللاذقية وتداعياتها البيئية والاقتصادية

جنى العيسى | شعبان شامية | سدرة الحريري | لمى دياب

تحول منزل غزوان يونس (26 عامًا)، من سكان منطقة المزرعة بقسطل معاف بريف اللاذقية، إلى رماد بالكامل نتيجة الحرائق التي اندلعت وانتشرت منذ أكثر من أسبوع في ريف اللاذقية غربي سوريا. ووفقًا لما قاله غزوان لعنب بلدي، بدأت النيران في منزله بينما كانت العائلة داخله، ولم يستغرق الأمر سوى أقل من ربع ساعة ليحترق المنزل بالكامل، مما اضطر العائلة إلى الخروج مسرعة خوفًا من الأذى.

نجا غزوان يونس بأعجوبة بعد أن أوصل أهله إلى مكان آمن وعاد لمحاولة إخماد النيران وإنقاذ منزله الوحيد، لكن النيران كانت أقوى وحاصرته من كل الجهات، مما اضطره للهروب بعد أكثر من ربع ساعة من المحاصرة. لم تقتصر الأضرار على عائلة غزوان، بل طالت عشرات المنازل في قسطل معاف ومناطق أخرى. وتشير الإحصائيات الأولية إلى أن الحرائق امتدت إلى أكثر من 18 ألف هكتار من الغابات والأراضي الزراعية، وتسببت في نزوح أكثر من 1120 شخصًا وتأثر أكثر من 5000 شخص من السكان الذين يعانون أساسًا من سنوات الصراع والانهيار الاقتصادي.

تستعرض عنب بلدي في هذا الملف توقيت بدء الحرائق هذا العام، وسط شكوك حول كونها مفتعلة، وتسلط الضوء على الآثار المتعددة التي خلفتها هذه الحرائق التي لم تنطفئ منذ أكثر من أسبوع والتهمت مساحات واسعة في اللاذقية.

تحولات بيئية متطرفة

لم تتمكن فرق الإطفاء المحلية والإقليمية من السيطرة على الحرائق التي امتدت منذ 3 تموز الحالي، بسبب صعوبات كبيرة تتعلق بشدة الرياح التي أدت إلى تجدد اشتعال النيران وانتقال الشرر لمسافات بعيدة، ووجود ألغام، وتضاريس المنطقة الوعرة. كما ساهم في انتشار الحرائق حالة الجفاف الشديد والرياح التي تجاوزت سرعتها 60 كيلومترًا في الساعة.

توقفت محطة “كهرباء البسيط” عن العمل بسبب أضرار الحريق في خطوط الجهد المتوسط، مما تسبب في انقطاع التيار الكهربائي وانقطاع ضخ المياه. كما تضررت خطوط الكهرباء ومحطات الكهرباء الفرعية، ولا تزال الطرق الرئيسة، بما في ذلك الطريق السريع الدولي إلى تركيا، مغلقة أو متأثرة. وأدى انفجار الذخائر غير المنفجرة والألغام الأرضية من مخلفات الحرب إلى تعريض فرق الإغاثة للخطر وتأخير الوصول.

انتشر دخان كثيف فوق اللاذقية وحماة وجنوب إدلب، مع إصدار تحذيرات صحية للفئات الأكثر عرضة للخطر، بينما أدت الحرائق إلى نفوق الماشية وتدمير ملاجئ الحيوانات.

ظواهر متطرفة

في 1 تموز الحالي، أكد وزير الطوارئ وإدارة الكوارث، رائد الصالح، أن سوريا تشهد ارتفاعًا خطيرًا في معدل اندلاع حرائق الغابات والأحراش. وأوضح أن عدد الحرائق بلغ منذ بداية نيسان وحتى نهاية حزيران الماضي 3579 حريقًا، توزعت على 12 محافظة، مما يهدد مستقبل التوازن البيئي للأجيال المقبلة. وأضاف أن سوريا واجهت في تلك الفترة واحدة من أكثر موجات الحرائق الحرجية والزراعية اتساعًا وخطورة.

توقيت الحرائق هذا العام بدا مبكرًا عن كل عام، إذ عادة ما تتأخر في حال كانت مدفوعة بظروف بيئية حتى أشهر الصيف الشديدة، إلا أن بدء انتشارها بكثافة منذ نيسان يفتح باب التساؤلات حول التحولات في المشهد البيئي هذا العام.

الصحفي السوري المتخصص بالقضايا البيئية زاهر هاشم، قال لعنب بلدي، إن السبب في ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى التغيرات المناخية الواضحة في السنوات الأخيرة التي ينتج عنها ما يسمى ظواهر مناخية متطرفة، تتمثل بتغير أنماط الطقس وارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات قياسية وموجات جفاف طويلة الأمد في أماكن ومواعيد غير متوقعة. وأضاف أن الجفاف المطول والحرارة الشديدة وجفاف النباتات المتزايد تهيئ ظروفًا مثالية لاندلاع حرائق غابات متكررة وشديدة.

يؤدي تغير المناخ إلى خلق ظروف أكثر حرارة في بعض المواقع التي تحدث فيها رياح حارة وجافة، إذ أصبحت هذه الرياح أكثر شيوعًا في أجزاء من العالم بسبب تغير المناخ، ما يعني أن التأثير أو العواقب المحتملة فيما يتعلق بحرائق الغابات تزداد سوءًا.

زاهر هاشم

صحفي متخصص بالقضايا البيئية

لذا، فإن اتجاهات الاحترار العالمي تجعل مواسم ذروة حرائق الغابات أكثر حرارة حتى في فصل الربيع، وتجعل مناطق الغابات أكثر جفافًا وأكثر عرضة لاندلاع حرائق الغابات، ويحدث هذا قبل أن تنمو أوراق جميع الأشجار العريضة الأوراق المتساقطة بالكامل، وتكون الرطوبة في إبر الأشجار الصنوبرية أقل من المعتاد، ما يسهل اشتعالها، بحسب ما أوضحه الصحفي المتخصص بقضايا البيئة زاهر هاشم.

عنصر من الدفاع المدني يعمل على إخماد حريق في ريف اللاذقية

عنصر من الدفاع المدني يعمل على إخماد حريق في ريف اللاذقية – 9 من تموز 2025 (عنب بلدي/ديان جنباز)

مفتعلة أم لا؟

بالتوازي مع تصاعد ألسنة اللهب، تصاعدت التساؤلات عما إذا كانت هذه الحرائق طبيعية أم متعمدة، إذ أرجع ناشطون اندلاع الحرائق في مواقع عدة متزامنة بريف اللاذقية (مثل دمسرخو والعمرونية) إلى “أيادٍ خفية”، مستشهدين بحريق كبير اندلع قرب إحدى الثكنات العسكرية. وأفاد شهود عيان عن “سرعة انتشار النيران وصعوبة السيطرة عليها”، وسط اتهامات بأنها “مقصودة” لـ”استهداف المناطق الحرجية والممتلكات أو لصرف الانتباه عن قضايا أُخرى، وربما بهدف إحداث إرباك واستنزاف للموارد”.

كما طرح مدونون عبر “إكس” فرضية وقوف تجار الفحم خلف بعض الحرائق لاستغلال أخشاب الغابات، وهو ما ينفيه كثيرون باستمرار بعد كل موجة حرائق “لتعذر الاستفادة من الأحراج المحترقة في صناعة الفحم”. وزير الداخلية السوري، أنس خطاب، قال خلال زيارة أجراها لموقع الحرائق، في 8 من تموز الحالي، إن الوزارة بدأت بعملية التحقيق حول بعض العمليات، والشبهات التي وصلت إليها تتعلق باحتمالية افتعال الحرائق، موضحًا أن هناك شبهة وشكوكًا بأن بعض الشخصيات متورطة في افتعال الحرائق، دون أن يذكر أي تفاصيل إضافية تتعلق بذلك. وأردف الوزير أن مساحة الحرائق واسعة جدًا، وبالتالي فإن الشكوك وحدها غير كافية، إنما يحتاج الأمر إلى أدلة وتوثيقات تفيد التحقيقات الجارية، دون أن يجري إعلان النتائج حتى تحرير هذا الملف.

مناخية وبشرية

نائبة عميد المعهد العالي لبحوث البيئة في جامعة “اللاذقية”، والمتخصصة بالبيئة والتصنيف النباتي وتأثير حرائق الغابات بالتنوع الحيوي النباتي، الدكتورة وفاء رجب، أوضحت لعنب بلدي أن الحرائق تحدث لأسباب عديدة، منها المناخية (نتيجة صاعقة مثلًا أو جفاف شديد مترافق مع رطوبة منخفضة ورياح شديدة بوجود الوقود الذي هو عبارة عن بقايا النباتات المتراكمة بأرض الغابة). وهناك أسباب بشرية كالحريق المتعمد، أو بغير قصد كالإهمال (ترك بقايا النباتات أو الأوراق أو الأغصان المتراكمة بأرض الغابة أو ترك النفايات التي من الممكن أن تحتوي على قطع زجاجية تكثف الأشعة الشمسية وتشعل شرارة الحريق الأولى) أو حرق أراضٍ زراعية مجاورة، أو “التفحيم”، أو نتيجة حوادث مرورية أو تماس كهربائي بسبب قرب أغصان الأشجار من الأسلاك الكهربائية، بحسب رجب.

وأشارت الاختصاصية إلى أن انخفاض القيمة الاقتصادية لمنتجات الغابات المتوسطية، بسبب نموها البطيء والطلب القليل على منتجاتها، مقارنة بالغابات الأطلسية أو الاستوائية، يُقلل من فرص الربح من خلال الاستثمارات في المجال الحرجي المتوسطي، ما يعرضها للإهمال وعدم الصيانة، وبالتالي لخطر الحريق. وبيّنت رجب أن الظروف السائدة في فصل الجفاف، وانحباس الأمطار مع ارتفاع الحرارة، إضافة إلى انخفاض الرطوبة الجوية، يؤمّن فرصًا أكبر لحدوث الحرائق الضخمة بوجود كمية الوقود القابل للاشتعال في الغابة، مشيرة إلى أن هذه الظاهرة تُلاحظ بعد مرور فصل ماطر يؤدي إلى نمو الكتلة الحية بشكل وافر، تشكل فيما بعد في الفصل الجاف الوقود المطلوب لاشتعال الحرائق.

الرياح الحارة الجافة تعد من أهم العوامل المساعدة على انتشار الحريق وزيادة المساحة المحروقة، بحسب الاختصاصية، أما داخل الغابات الأوجية المعمرة حيث توجد المناخات الدقيقة الرطبة، والوقود الرطب، والريح المنخفضة السرعة، فإن الحرائق الكبيرة نادرة الحدوث، وتسمى هذه المواقع “مقبرة الحرائق”، إذ يمكن أن تغيب الحرائق لمئات السنوات (لا تحدث الحرائق فيها إلا بشكل متعمد).

وحول دور المناخ، لفتت الدكتورة رجب إلى أن الغابات المتوسطية حساسة للحرائق بسبب الظروف المناخية السائدة فيها عادة، مؤكدة أن الظروف المناخية السائدة في الفترة الحالية تتمثل بالحرارة المرتفعة والرياح الشديدة، في حين أن الرطوبة الآن عالية، وبالتالي فالحرائق ليست بفعل المناخ، وإنما كان المناخ عاملًا مساعدًا في انتشارها، بالإضافة إلى وعورة التضاريس التي صعبت من عملية الإخماد. وهناك أثر كبير لقلة الأمطار في الشتاء السابق، وهو ما أسهم في جفاف الهواء والتربة وقلة المياه الجوفية ومياه البحيرات، بحسب الاختصاصية، وكل ذلك يعد عاملًا مساعدًا لانتشار الحرائق وصعوبة إخمادها. كما أن الاضطرار لاستخدام مياه البحر في إخماد الحريق ستظهر آثاره لاحقًا بالضرر على نباتات وتربة المنطقة، وقد تؤثر سلبًا على عودة التنوع الحيوي أيضًا.

خبير أممي: 99% من حرائق سوريا ناتجة عن تدخل بشري

الوزير الأسبق للزراعة والإصلاح الزراعي في سوريا، والخبير في منظمة الأغذية والزراعة بالأمم المتحدة (فاو)، نور الدين منى، قال لعنب بلدي، إن الحرائق التي شهدتها سوريا سواء في فترة النظام السابق أو في المرحلة الحالية هي من حيث الشكل واحدة، لكن ما يختلف هو الهدف منها. وذكر الخبير الأممي أن نحو 90% من الحرائق تصنف كمفتعلة من الناحية العلمية، إذ تشعل عمدًا لأسباب بشرية، مثل توسعة الأراضي الزراعية، فيقدم المزارع على الحرق ثم يفقد السيطرة على النيران. وكشف منى أنه في السياق السوري تصل نسبة الحرائق الناتجة عن تدخل بشري إلى 99%، أما العوامل الطبيعية كالبرق أو حرارة الشمس المرتفعة أو الصخور القابلة للاشتعال، فلا تتجاوز نسبتها ما بين 5 إلى 7%.

وأشار منى إلى أن الحرائق قبل سقوط النظام السابق كانت تفتعل غالبًا من قبل مافيات الأراضي وقاطعي الأشجار أو الباحثين عن الفحم، وتم القبض على بعض الأفراد الذين كانوا على صلة بتجار مرتبطين بالسياسة. الأسباب البشرية التي تعود إليها حرائق الغابات تنقسم إلى أعمال مقصودة أو غير مقصودة، مثل الاستيلاء على الأراضي أو الحصول على الفحم أو نتيجة الإهمال.

فرق الدفاع المدني تواصل جهود إخماد الحرائق الحراجية بريف اللاذقية

فرق الدفاع المدني تواصل جهود إخماد الحرائق الحراجية بريف اللاذقية في يومها العاشر – 11 تموز 2025 (الدفاع المدني السوري/ تلغرام)

استجابة قصوى.. لا تكفي

وسط ازدياد شدة الحرائق المندلعة في الساحل السوري وعدم التمكن من إخمادها لأيام عدة متواصلة، تطلّب الوضع الحالي آليات عاجلة وتدخلًا دوليًا للحد من الخسائر في الأراضي الزراعية والحرجية. أظهرت الحكومة السورية استجابة سريعة وفق الإمكانيات المتاحة منذ اللحظات الأولى لانتشار الحرائق في جبال اللاذقية، وذلك عبر فرق الدفاع المدني، وإنشاء غرف عمليات بين الوزارات المعنية.

في إطار المتابعة الحكومية، أوضح مدير مديرية الساحل في الدفاع المدني السوري، عبد الكافي كيالي، لعنب بلدي، أنه يوجد أكثر من 150 فريقًا يعمل على الأرض ضمن غرفة عمليات متكاملة، من الدفاع المدني السوري، وأفواج الإطفاء الحرجية، بالإضافة إلى الأفواج التابعة لمجالس مختلف المحافظات، منها فرق تطوعية ومؤسسات. وتشارك في إطفاء الحرائق أكثر من 300 آلية وعشرات آليات الدعم اللوجستي، و18 “بلدوزرًا” ومعدات ثقيلة لفتح خطوط القطع الناري و”تسليك” الطرقات أمام سيارات الإطفاء، وفق كيالي.

كما تدخلت كل من تركيا ولبنان الأردن والعراق وقطر ودول من الاتحاد الأوروبي للمساعدة في إخماد الحرائق، وذلك من خلال توفير الدعم اللوجستي والفني، إضافة إلى المساعدات الإنسانية، إلى جانب عدد من الطائرات المروحية والآليات التي أرسلت من عدة دول.

ضعف إمكانيات

تواجه الحكومة السورية تحديات كبيرة، ما يعوق قدرة الدفاع المدني والإطفاء على السيطرة على الحرائق بسرعة وفعالية. المسؤول الإعلامي في وزارة الطوارئ وإدارة الكوارث، إسماعيل العبد الله، قال لعنب بلدي، إن السبب الرئيس لضعف الاستجابة لإطفاء الحرائق المندلعة في الساحل السوري حاليًا، وعدة حرائق سابقة في سهل الغاب ودمشق، هو ضعف الإمكانيات. فعلى مستوى الآليات، فإن أفواج الإطفاء في مناطق سيطرة النظام السابق لا يمتلكون معدات لإطفاء الحرائق والاستجابات الطارئة، فأغلبها من السبعينيات والثمانينيات، وعدد السيارات الحديثة قليل جدًا، علمًا أن الدفاع المدني السوري كان يملك بعض المعدات خلال السنوات الماضية.

وأوضح أن النقص يكمن في عدم وجود آليات قادرة على التعامل مع الأحراش وعلى صعود الجبال وعلى ضخ المياه، فهي غير متوفرة لدى الدفاع المدني السوري، الذي يعد جزءًا من وزارة الطوارئ وإدارة الكوارث. وأضاف العبد الله أن هناك صعوبات عديدة غير الآليات وهي الحاجة لتأمين البترول والديزل للآليات، وصعوبة التضاريس (سهول، وديان، جبال)، ووجود نقص في عدد الصهاريج والمناهل المائية التي تزود أفواج الإطفاء بالمياه خلال الحرائق. ونوه إلى أن انتشار الذخائر غير المنفجرة والألغام يزيد من الحرائق، وهو أحد العوامل الأساسية بصعوبة إيقافها.

وأشار العبد الله إلى أن النظام السابق لم يتعامل بطريقة احترافية مع الغابات، فلا توجد خطوط نار، ولا أماكن لاقتحام النيران، التي من المفترض أن تكون موجودة والعمل عليها جارٍ منذ سنوات.

سحب الدخان تغطي جبال الساحل السوري بسبب الحرائق

غطت سحب الدخان جبال الساحل السوري بسبب الحرائق التي استمرت أكثر من عشرة أيام – 10 تموز 2025 (عنب بلدي/ إياد عبد الجواد)

أزمات بيئية واقتصادية متفاقمة

لم تعد آثار الحرائق المتكررة سنويًا في سوريا محصورة في الجانب البيئي فحسب، بل امتدت لتطول الجوانب الاقتصادية والاجتماعية بشكل مباشر. هذه الكوارث لم تعد مجرد حوادث طبيعية، وصارت تكشف عن أزمة متعددة الأبعاد، تتداخل فيها خسائر الطبيعة مع تهديدات معيشية وإنسانية، ما يستدعي اعتبارها أزمة شاملة تتطلب استجابة متكاملة وعاجلة.

خسائر فادحة في الغطاء الحرجي

وفقًا لإحصائيات نشرتها مؤسسة “مدد للتنمية وبناء السلام” منتصف عام 2024، شكّل الغطاء الحرجي السوري في عام 2011 نحو 2.5% من مساحة البلاد، أي ما يقارب 500 ألف هكتار، منها حوالي 233 ألف هكتار غابات طبيعية. منذ ذلك الحين وحتى منتصف عام 2024، خسرت سوريا ما بين 90 إلى 120 ألف هكتار من هذه المساحات نتيجة الحرائق والقطع الجائر. محافظات الساحل تكبّدت الحصة الكبرى من الخسائر، إذ أشار تقرير صادر عن منظمة “PAX” إلى فقدان نحو 25 ألفًا و320 هكتارًا من الغابات بين عامي 2011 و2021. بحساب أن كل هكتار يحتوي على نحو 1000 شجرة، فإن خسارة سوريا تقارب 105 ملايين شجرة حرجية خلال 13 عامًا، وهي أرقام تزداد بعد الحرائق الأخيرة التي اندلعت في تموز الحالي.

المهندس الزراعي باسل ديوب قال، في حديث إلى عنب بلدي، إن تكرار الحرائق يلحق أضرارًا بيئية بالغة لا تسمح للنظم البيئية بالتعافي، فبينما تستطيع بعض النباتات التجدد بعد حريق واحد، فإن الحرائق المتكررة تستنزف المادة العضوية من التربة وتمنع نمو النبات مجددًا. وأضاف الخبير أن الغابات الحرجية السورية، مثل الصنوبر البري والكستناء والسنديان، تحتاج ما بين 10 إلى 15 سنة لتتعافى طبيعيًا، بينما تكرار الحرائق يقضي على هذه الدورة.

تتمثل تأثيرات الحرائق من الناحية البيئية بعدة مستويات، منها تدهور خصائص التربة الفيزيائية والكيماوية، وزيادة التعرية وفقدان الغطاء النباتي، وتلوث الموارد المائية بسبب تسرب الرماد، وتراجع جودة الهواء وازدياد انبعاثات الغازات الدفيئة، وغير ذلك وفق المهندس الزراعي. وحذر باسل ديوب من أن التربة قد تصبح غير صالحة للزراعة، ما يؤدي لتحول أراضٍ خصبة إلى أراضٍ متصحرة. كما تؤدي الحرائق إلى تغيرات مناخية عميقة، بحسب ما تحدث ديوب، تشمل ارتفاع درجات الحرارة، وإطلاق كميات كبيرة من غاز ثاني أكسيد الكربون، وفقدان التنوع البيولوجي بسبب موت الكائنات وتشريد الحياة البرية، بالإضافة إلى اختلال التوازن البيئي المحلي.

رئيسة قسم بحوث نظم المعلومات في الهيئة العامة للبحوث الزراعية، الدكتورة رقية الحسن، قالت لعنب بلدي أيضًا، إن الحرائق تسرع من عمليات التعرية الأرضية وتضعف قدرة التربة على الاحتفاظ بالمياه، ما يزيد من خطر الفيضانات والانجرافات. وأضافت أن تراجع الغطاء النباتي خلال العقود الأخيرة جعل البيئة السورية أكثر هشاشة في مواجهة الحرائق.

تهدد الأرياف

الدكتورة رقية الحسن أكدت أن تكرار الحرائق يهدد حياة سكان المخيمات والمناطق الريفية، سواء من خلال الإصابات أو الموت أو فقدان الممتلكات، كما أنها تدمر المحاصيل الزراعية، ما يعمق أزمة الأمن الغذائي. واعتبرت الخبيرة أن هذه الحرائق ليست ظاهرة موسمية فحسب، بل أصبحت أكثر شدة في السنوات الأخيرة بسبب التغيرات المناخية وزيادة فترات الجفاف.

وفي تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO)، في حزيران الماضي، حذرت من أن سوريا تمر بظروف مناخية استثنائية تهدد أكثر من 16 مليون شخص بانعدام الأمن الغذائي. بدورها، شددت الباحثة الاجتماعية تغريد مسلّم على أن الحرائق تشكل كارثة إنسانية، لما تسببه من فقدان مصادر الدخل الأساسية، كالمواشي والأراضي والمحاصيل. وقالت إن الأزمة تجاوزت الفقر لتصل إلى انعدام سبل العيش لدى آلاف الأسر. وطالبت بمزيد من التدخل من المجتمع المدني والدولة لتعويض المتضررين، وتأمين حياة كريمة، إضافة إلى تأهيل المناطق المعرضة للحرائق ووقايتها من الكوارث المقبلة. كما دعت إلى تدخل المنظمات الدولية لتقديم دعم نفسي واجتماعي عاجل للسكان المتأثرين.

خسائر اقتصادية متراكمة

من الناحية الاقتصادية، يوضح وزير الزراعة السوري الأسبق والممثل الأممي لدى منظمة “FAO”، نور الدين منى، أن الغابات ليست فقط مصدرًا بيئيًا، بل تمثل مصدر دخل مباشرًا للعديد من السكان من خلال الأخشاب والأعشاب الطبية والصيد. وأكد الخبير أن الحرائق تضعف القيمة الاقتصادية للغابات بسبب موت الأشجار وصعوبة إعادة ترميمها، حيث يتطلب ذلك سنوات وجهودًا مالية ضخمة، إضافة إلى تدني قيمة الأخشاب المتبقية حسب النوعية.

وعلى نطاق أوسع، لم تتمكن سوريا هذا العام من زراعة سوى 40% من الأراضي المخطط لها نتيجة شح المياه وتضرر البنية التحتية، ما أدى إلى عجز في إنتاج القمح يُقدّر بـ2.73 مليون طن، وهو ما يكفي لإطعام 16 مليون شخص لمدة عام. كما أسهمت الحرائق الأخيرة في تدمير مناطق زراعية خصبة، وخصوصًا حقول الزيتون والمحاصيل الرئيسة، ما يعزز مخاوف من موجات نزوح جديدة إلى المدن أو خارج الحدود.

أكثر من 150 فريقًا في الدفاع المدني يحاولون السيطرة على الحرائق

شارك أكثر من 150 فريقًًا في الدفاع المدني بمحاولات السيطرة على الحرائق في الساحل – 10 تموز 2025 (عنب بلدي/ إياد عبد الجواد)

مستقبل مجهول

50 عامًا للترميم

حول الخطط المستقبلية لوزارة الطوارئ وإدارة الكوارث، أوضح إسماعيل العبد الله، أن الوزارة ستعمل على دراسة وتنظيم الغابات في سوريا وفتح خطوط النار، بالإضافة إلى وضع خطط استراتيجية لمكافحة الحرائق، ووضع نقاط متقدمة، وتجهيز سلسلة توريد للماء، وتجهيز سلسلة توريد للآليات، وغير ذلك. وذكر العبد الله أن الحرائق منتشرة في كل أنحاء العالم، وليست مصادفة أن تكون هناك حرائق في سوريا، لكن ضعف البنى التحتية الموجودة في الغابات أدى إلى انتشار الحرائق، وضعف الإمكانيات أدى إلى عدم احتوائها.

وحول الإجراءات اللازمة لترميم الغابات المحترقة، قالت نائبة عميد المعهد العالي لبحوث البيئة في جامعة “اللاذقية”، الدكتورة وفاء رجب، إن ذلك يكون بالاستعانة باختصاصيين في إدارة الغابات وإدارة الحرائق، كما أن هناك ضرورة لحماية الغابات خلال الفترة التالية للحريق ومنع استغلالها لتحويلها لأراضٍ زراعية أو سياحية أو غيرها.

أي غابة تتعرض لحريق ضخم، كالذي يحدث الآن، تحتاج إلى 50 عامًا لتعود كما كانت عليه سابقًا.

الغابات هي رئة الكوكب، وأهميتها تعود على سوريا كلها والدول المجاورة، خاصة غابات “الفرنلق”، وهي من الغابات المعمرة النادرة في المنطقة، ويجب علينا جميعًا حمايتها وإدارتها إدارة سليمة وصحيحة.

الدكتورة وفاء رجب

نائبة عميد المعهد العالي لبحوث البيئة في جامعة “اللاذقية”

تدابير وقائية

تعتبر التدابير الوقائية وسيلة فعالة لتقليل حدوث الحرائق وتأثيرها، حيث تساعد من خلال الإجراءات المتخذة على الحد من المخاطر التي تتسبب بها النيران وتخفض من أضرارها في الممتلكات والأرواح. وزير الزراعة الأسبق، نور الدين منى، قال لعنب بلدي، إنه لا يلقي اللوم على أحد، لكن من المهم القول إنه حتى الآن لا توجد استراتيجية وطنية حقيقية لإدارة الحرائق.

في عهد النظام السابق، وُضعت خطط مكتوبة لإدارة الكوارث، لكنها لم تُطبق نتيجة الفساد، أما الحكومة الحالية، ورغم تسلّمها السلطة في فصل الشتاء (وهو فصل لا يشهد حرائق)، كان من المفترض أن تضع خطة استباقية، نظرًا إلى تكرار الحرائق سنويًا بسبب الأعشاب اليابسة والقمح وغيره، وفق منى. وتابع أنه في معظم دول العالم، توجد أنظمة إنذار مبكر، ويجري تحديد مناطق سفوح الجبال وإنشاء طرق للوصول السريع إليها، لكن في سوريا لا يزال غياب الطيران المخصص للإطفاء يُعدّ أحد أبرز العوائق، رغم قرب المناطق المحترقة من البحر، ما يتيح للطائرات سحب المياه وإطفاء الحرائق خلال دقائق.

ومن المهم أيضًا التفكير باستئجار طائرات وإقامة تنسيق دولي مع تركيا ولبنان، كما هو معمول به في حالات الطوارئ، بحسب منى. وأوضح منى أن هناك حاجة ملحّة لتحديث التشريعات، ويأمل من البرلمان المقبل أن يطرح قوانين جديدة لتنظيم استثمار الغابات، وتفعيل قانون الحراج، وفرض عقوبات مشددة بحق المتسببين بالحرائق، معتبرًا أن العبث بالغابات يُعد خيانة وطنية، ويجب أن يُعامَل على هذا الأساس، بما يشمل فرض أقسى العقوبات على المرتكبين.

ولفت إلى أنه توجد تقنيات حديثة لرصد ومراقبة الغابات، ومنها أجهزة إنذار مبكر يجب الاعتماد عليها، إلى جانب إنشاء ممرات نارية كما تفعل دول عدة، وعلى الصعيد القانوني، لا بد من فرض أقسى العقوبات، وتنظيم عملية الاحتطاب بإشراف حكومي في مساحات محددة، لتفادي الآثار التخريبية العشوائية. وختم حديثه بتأكيده ضرورة تدريب فرق الإطفاء وتأهيلها بالتقنيات الحديثة، وتوفير حوافز مادية للكوادر، نظرًا إلى خطورة المهام التي يضطلعون بها، وضرورة التعاون الدولي حتى من دول قد تكون خصمًا، لأن الحرائق، كالأوبئة، تنتشر بلا حدود، وهو ما يفرض تدخلًا جماعيًا منعًا لامتداد الخطر، وفق منى.

جهود الدفاع المدني السوري مستمرة في إخماد الحرائق

جهود الدفاع المدني السوري مستمرة في محاولات إخماد حرائق الساحل السوري – 8 تموز 2025 (الدفاع المدني/ إكس)

كيف تجدد الغابات نفسها؟

قالت الأستاذة في قسم الموارد الطبيعية المتجددة والبيئة بكلية الهندسة الزراعية في جامعة “حلب”، الدكتورة غصون السمان، لعنب بلدي، إن الأحراج والغابات المحترقة تجدد نفسها بذريًا أو خضريًا، مشيرة إلى أن الحرائق التي تحدث بمعظم الغابات في سوريا هي غابات صنوبر. وأوضحت الدكتورة السمان، أن النوع الرئيس في غابات الصنوبر المحترقة هو صنوبر “بروتي”، مع أنواع أخرى مرافقة له، والتي تكوّن مساحات واسعة من غابات الساحل السوري، وتغطي مناطق جبلية وعرة ذات انحدارات شديدة. وبالتالي فهي أكثر الغابات عرضة للحرائق لاحتوائها على مواد سريعة الاشتعال (مثل الراتنج والتربنتين)، بحسب الاختصاصية، وهذا النوع لا يتجدد إلا بذريًا، وبما أن معظم الحرائق التي تحدث سطحية تاجية فهي تقضي على كامل الأشجار والشجيرات والغطاء النباتي للغابة وتفحمها بالكامل.

وأردفت الاختصاصية أنه بالتالي يتجمّع الرماد على سطح تربة الغابة، وهذا ما يجعل المخاريط المحمّلة بالبذور تموت بالكامل، أي أن عملية تجدد “الصنوبر البروتي” بعد الحريق بطيئة، إلا إذا كانت الغابات التي احترقت مجاورة للغابات التي لم تصلها ألسنة النار. وأضافت السمان أنه عندها يمكن لبذور الصنوبر الواردة من المخاريط الناضجة جنسيًا والمتفتحة أن تتطاير عن طريق الرياح إلى الموقع المحروق، فيحدث الإنبات وتعود دورة الحياة من جديد، مع وجود صعوبات عدة ترافق عملية التجدد هذه، ما يجعلها تستغرق عدة سنوات، وقد تصل في بعض الأحيان لعشرات السنوات حسب ظروف موقع كل غابة.

دور الإنسان

وعن الإجراءات التي يجب اتخاذها في مواقع الغابات المحترقة، أجابت السمان أن أولى الخطوات هي فرض الحماية الكاملة للموقع، والامتناع عن دخول سكان وأهالي القرى المجاورة للغابة إليها، إضافة إلى منع دخول الحيوانات، وخاصة في فصل الربيع، بهدف الرعي. وأشارت الاختصاصية إلى أن الإنسان العادي يستطيع أن يساعد في عملية تسريع تجدد الغابة المحترقة عن طريق عدم قطع الأشجار وعدم إجراء “التفحيم” ضمن الغابة، بالإضافة إلى المشاركة في عمليات التشجير بأنواع اقتصادية (ذات عائد اقتصادي) يستفيد منه، وأيضًا منع إدخال الحيوانات الرعوية خلال السنوات الأولى من تجدد الغابة.

وختمت الدكتورة السمان بأن من المهم أيضًا عدم دخول الغابة المحترقة للاصطياف أو التنزّه، فهذا يساعد على التجدد بشكل أسرع وخلال فترة زمنية أقصر، خاصة خلال السنوات الأولى من تجدد المساحات الخضراء بعد وقوع الحرائق المدمّرة.

مشاركة المقال: