في لبنان، ورغم كل التغييرات الحكومية والسياسية، تبقى الرقابة سلطة ثابتة لا تتزعزع، مستعدة لقمع أي عمل فني أو ثقافي يحمل ولو انتقاداً بسيطاً للنظام أو أجهزته الأمنية والسياسية.
مجدداً، تتدخل الرقابة اللبنانية، ممثلة بـ«المديرية العامة للأمن العام»، لفرض قيودها على عمل فني، وهذه المرة على فيلم «مشقلب». الفيلم هو عمل أنطولوجي يتألف من أربع قصص قصيرة، كتبها وأخرجها أربعة مخرجين هم: لوسيان بورجيلي، باني فقيه، وسام شرف، وأريج محمود.
تبدأ القصة الأولى في الفيلم بمشهد اعتبرته الرقابة غير مقبول، وطالب الأمن العام بحذفه كشرط للسماح بعرض الفيلم في الصالات اللبنانية. هذا المشهد عبارة عن لقطة طويلة لا تتعدى مدتها العشرين ثانية، تُظهر مجموعة من الناشطين الشباب يجتمعون في غرفة للتحضير لتحرك احتجاجي. يشاهدون خلال تحضيرهم على هواتفهم فيديو يظهر عنف القوى الأمنية ضد أحد أصدقائهم خلال تظاهرة سلمية، ويتبادلون التعليقات حوله قبل انطلاق أحداث القصة.
القصص الأربع التي يتألف منها «مشقلب» تحمل توقيع أربعة مخرجين لبنانيين: «غداء العيد» لوسيان بورجيلي، «حديد نحاس بطاريات» لوسام شرف، «Keep It Together» لباني فقيه، و«بيروت: 6:07» لأريج محمود. يشارك في التمثيل نخبة من الأسماء اللبنانية كمنال عيسى، رودريغ سليمان، فرح شاعر، وحنان الحاج علي. أما الإنتاج، فهو لبشارة مزنر، مع نادين لبكي وخالد مزنر كمنتجين تنفيذيين.
اقتُرن الحذف كشرط للسماح بعرض الفيلم في الصالات اللبنانية
كان من المقرر أن يُعرض الفيلم في لبنان في 3 تموز (يوليو)، بالتزامن مع عروضه في مدن عربية وأوروبية وأميركية، إلا أن الرقابة اللبنانية رفضت منحه إذن العرض قبل حذف المشهد المذكور، الذي يشكل تحديداً افتتاحية الفيلم ووقعه لوسيان بورجيلي كتابةً وإخراجاً. حرصاً من صناع العمل على عدم حرمان الجمهور اللبناني من مشاهدة الفيلم، قرروا القبول بهذا التنازل، ولو على مضض، تجنباً لمنع الفيلم برمته. وبناء عليه، تأجل العرض أسبوعاً ليُعرض في 10 تموز (يوليو) بنسخة مبتورة «رقابياً»، بينما كان قد عُرض في العواصم الأخرى بنسخته الأصلية الكاملة من دون اقتطاع أي مشهد.
يغوص الفيلم في الراهن اللبناني، بدءاً من انتفاضة تشرين الأول (أكتوبر) 2019، مروراً بالأزمات المتتالية التي شهدها لبنان: الانهيار الاقتصادي، انفجار مرفأ بيروت، إفلاس المصارف وسرقة أموال المودعين، وصولاً إلى الأوضاع النفسية المأزومة التي يعيشها اللبنانيون في ظل عبثية وضبابية تحاصر ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم.
«مشقلب» لم يمر مرور الكرام في المحافل الدولية، بل حصد حضوراً لافتاً خلال مشاركته في مهرجانات سينمائية عربية وعالمية، من بينها القاهرة، دبي، باريس، سويسرا، وواشنطن. كما نال جائزة الجمهور «سينما من أجل الإنسانية» ضمن فعاليات «مهرجان الجونة السينمائي»، وهو ما يضيف إلى رصيده قيمة فنية ومعنوية على الساحة العالمية.
هذه الحادثة ليست سابقة في مسيرة لوسيان بورجيلي، الذي دائماً ما اصطدم بالرقابة اللبنانية. سبق أن منع الأمن العام اللبناني عرض مسرحيته «بتقطع أو ما بتقطع؟» عام 2013، وهي مسرحية تناولت صراحة إشكالية الرقابة في لبنان، وكانت بمنزلة صرخة احتجاج ضد هذا القمع الممنهج للفن. ولم يكن بورجيلي وحده ضحية هذا التسلط، فقد عمدت الرقابة التابعة لوزارة الداخلية في كانون الثاني (يناير) 2025 إلى حظر أربع مسرحيات أخرى بحجة تناولها مواضيع تتعلق بالدين، أو المثلية الجنسية، أو الحرب الأهلية اللبنانية، في مشهد يؤكد على أن السلطات لا تزال متمسكة بسلاح الحظر والمنع كوسيلة لمحاسبة الفنانين تحت ذرائع «الحفاظ على القيم».
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الأخبار