الأربعاء, 23 يوليو 2025 10:30 PM

هيمنة اللوبي الصهيوني: كيف أصبحت أمريكا أسيرة أجندة إسرائيل؟

هيمنة اللوبي الصهيوني: كيف أصبحت أمريكا أسيرة أجندة إسرائيل؟

يتساءل الكثيرون: كيف تمكنت جماعات الضغط الصهيونية من السيطرة على الحكومة الأميركية وتوجيهها لخدمة مصالح الكيان الإسرائيلي؟ سؤال يطرح نفسه بقوة، ويتعدى كونه مجرد استفسار ليصبح قضية استراتيجية تمس صميم السياسة العالمية.

فالولايات المتحدة، التي تدعي أنها رمز الديمقراطية وحصن الحرية، غالبًا ما تبدو كحارس أمين للمشروع الصهيوني في الشرق الأوسط، وليست مجرد حليف تقليدي أو شريك سياسي. هذا التماهي لم يأتِ وليد اللحظة، بل هو نتيجة مسار طويل تم فيه بناء جسر من النفوذ، عبرت من خلاله شبكات الضغط الصهيونية إلى قلب القرار الأميركي.

عند تتبع تحولات الموقف الأميركي من القضية الفلسطينية، منذ وعد بلفور وحتى اعتراف ترامب بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي، يتضح وجود ما هو أعمق من مجرد التقاء مصالح. فالنظام السياسي الأميركي، بطبيعته المنفتحة على المال والتأثير والإعلام، أصبح أرضًا خصبة لتغلغل اللوبي الصهيوني، الذي لم يكتفِ بالدفاع عن مصالح إسرائيل، بل عمل على تشكيل الوعي الأميركي وتوجيه السياسة لصالح أجندات تل أبيب. من داخل الكونغرس، إلى مراكز البحوث، إلى غرف الأخبار، وصولًا إلى قاعات المحاكم ومراكز النفوذ المالي، نجح اللوبي الصهيوني في بناء شبكة يصعب اختراقها.

سطوة «الآيباك» الخفية ليست وليدة الصدفة. فمنذ تأسيس «لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية» (AIPAC) عام 1951، تحولت هذه المؤسسة إلى ذراع قوية تدفع السياسات الأميركية لخدمة الكيان الصهيوني. لا تمر انتخابات في الكونغرس دون تدخلها، عبر التمويل أو التشهير أو دعم الإعلام. وأصبح معروفًا لدى الساسة الأميركيين أن الاصطدام بـ«الآيباك» يعني الانتحار السياسي، وهو ما اعترف به أعضاء سابقون في مجلس الشيوخ، بعد تقاعدهم، مؤكدين أنهم كانوا مجبرين على مراجعة مواقفهم لتجنب إدراجهم ضمن قائمة «أعداء إسرائيل».

الأخطر في هذا التغلغل أنه لا يقتصر على التأثير التقليدي، بل يمس البنية الأخلاقية والخطاب السياسي الأميركي. ففي العقود الأخيرة، تكررت مقولة غريبة في أروقة السياسة الأميركية: من ينتقد إسرائيل، ولو نقدًا موضوعيًا، يُتهم بـ«معاداة السامية». هذا الانزلاق المفاهيمي فتح الباب أمام تكميم الأفواه وقمع الأصوات المناهضة للاحتلال، حتى داخل الجامعات والمراكز البحثية. وتم تجميد أساتذة وباحثين أكاديميًا لمجرد تضامنهم مع الشعب الفلسطيني، أو كتابة دراسات عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي.

لا يمكن تجاهل البعد المالي في هذه المعادلة. فالمؤسسات المالية الكبرى في وول ستريت، غالبًا ما ترتبط بعلاقات مع رجال أعمال صهاينة أو مؤسسات تدعم إسرائيل. هذه المؤسسات تمول الحملات الانتخابية للمرشحين المؤيدين لتل أبيب، وتستخدم نفوذها الاقتصادي للضغط على الإعلام والمؤسسات الثقافية. حتى هوليوود، لعبت دورًا في تلميع صورة الكيان الصهيوني وتشويه خصومها.

بعض الملفات التي تفضح هذا النفوذ سُرّبت ثم سُحبت بسرعة. مثال على ذلك قضية جوناثان بولارد، الجاسوس الإسرائيلي الذي سلم معلومات حساسة لإسرائيل. ورغم ذلك، ضغطت الحكومة الإسرائيلية للإفراج عنه. وهناك حادثة الراقصين الإسرائيليين الذين ضُبطوا وهم يحتفلون بعد أحداث 11 سبتمبر، وقيل إنهم كانوا يعملون للموساد. تم ترحيلهم بهدوء، دون تحقيقات معمقة. هذه الوقائع تكشف أن المسألة تتجاوز الدعم السياسي، إلى ما يشبه الحماية الأمنية والاستخبارية.

تحولات السياسة الأميركية الخارجية تعكس مصالح الكيان الصهيوني لا أولويات أميركا. الحرب على العراق، لم تكن ذات صلة مباشرة بالأمن القومي الأميركي بقدر ما كانت تنفيذًا لرؤية المحافظين الجدد المرتبطين بدوائر صهيونية. وتم تسويق أكذوبة «أسلحة الدمار الشامل» لتبرير اجتياح العراق، لأن وجود نظام عربي قوي كان يزعج إسرائيل. كذلك الموقف الأميركي من إيران، وسوريا، ولبنان، وحركات المقاومة، لا يُفهم إلا عبر عدسة المصالح الإسرائيلية.

في خضم هذا الواقع، يطرح البعض سؤالًا: هل لا تزال أميركا تملك قرارها السيادي؟ أم أنها باتت دمية في يد المشروع الصهيوني؟ هذا السؤال أصبح موضوعًا جادًا في دوائر فكرية أميركية مستقلة، خصوصًا بعد أن بدأت شريحة من الشباب تفتح عيونها على الوجه الآخر للسياسات الأميركية. دراسات وأبحاث أنتجها باحثون أميركيون، تُبيّن أن هناك اختطافًا حقيقيًا للعقل السياسي الأميركي.

الإعلام الأميركي لا يتحدث عن هذه الحقائق إلا نادرًا. الصحافي الذي يكتب أو يحقق في ملف النفوذ الإسرائيلي يواجه حملة تشهير وتشكيك، وقد يفقد عمله. ولعل هذا يفسر غياب النقاش الحقيقي حول العلاقة الأميركية الإسرائيلية في الساحة الإعلامية العامة.

اللافت أن الكثير من الساسة الأميركيين يصبحون أكثر جرأة في الحديث عن هذا النفوذ بعد مغادرة مناصبهم. الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر تحدث في كتابه «فلسطين: السلام لا الأبارتهايد» عن ضغوط هائلة تعرض لها أثناء محاولته التوسط لحل عادل للقضية الفلسطينية. كذلك أثار البروفيسور جون ميرشايمر وستيفن والت ضجة كبيرة بدراستهما حول «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية»، التي شرحا فيها كيف أن السياسة الأميركية تم اختطافها من قبل جماعات ضغط تعمل لمصلحة الكيان الإسرائيلي.

هذا الاختراق يمتد إلى المنظومة التعليمية والأكاديمية. فالكثير من الجامعات الأميركية الكبرى تخضع لضغوط مانحين كبار يمولون كراسي «دراسات الشرق الأوسط»، بشرط ألا تُمنح هذه الكراسي لباحثين معروفين بمواقف نقدية تجاه إسرائيل. وتم إلغاء عقود ومحاضرات وأبحاث لمجرد أن أصحابها أبدوا تعاطفًا مع الفلسطينيين أو انتقدوا الاحتلال. وهذا ما دفع مفكرين كبارًا إلى الحديث عن «مكارثية جديدة» تستهدف كل من يحاول أن يكسر حاجز الصمت إزاء ما يرتكبه الكيان الصهيوني من جرائم.

هناك استخدام لـ«اللاسامية» كسلاح لإسكات كل نقد، فبدلًا من أن يُفهم المصطلح في سياقه التاريخي والحقوقي، تم تحويله إلى أداة قمع فكري. وبات من الممكن أن تُتهم بـ«معاداة السامية» لمجرد أنك انتقدت سياسات الحكومة الإسرائيلية أو رفضت دعم الاحتلال. حتى المنظمات الحقوقية اليهودية التقدمية التي تعارض الاحتلال، مثل «يهود من أجل السلام»، أصبحت تتعرض لهجوم شرس من قبل اللوبيات الصهيونية.

هناك شبكات ضخمة من العلاقات المعقدة بين شركات السلاح الأميركية وإسرائيل. فصفقات التسليح الأميركية، التي تمنح سنويًا لإسرائيل بالمليارات، تخدم الصناعات الحربية الأميركية التي تبيع الأسلحة وتُجربها على أجساد الفلسطينيين. هذا النموذج من «الربح المتبادل» في الحروب، خلق تحالفًا بين المجمع الصناعي العسكري الأميركي والآلة العسكرية الإسرائيلية، على حساب دماء الأبرياء. بل إن الكيان الصهيوني تحوّل إلى مختبر حي لاختبار التكنولوجيا الأمنية الحديثة، قبل أن تُسوّق هذه المنتجات عالميًا بوصفها مجربة في «مكافحة الإرهاب».

في ظل ذلك كله، يتضح أن العلاقة بين أميركا والكيان الصهيوني لم تعد مجرد علاقة تحالف، بل أصبحت علاقة تبعية أحادية، حيث تدفع واشنطن فواتير سياسية وعسكرية وأخلاقية عن تل أبيب دون أن تجني بالمقابل سوى المزيد من العداء العالمي، والانكشاف الأخلاقي، والاحتقان الداخلي.

استطلاعات الرأي الأخيرة بين الشباب الأميركيين تُظهر تغيرًا ملحوظًا في المزاج العام، إذ بات كثير من الأميركيين يرون أن بلادهم تنحاز بلا مبرر إلى دولة تمارس الاحتلال وتضطهد شعبًا بأكمله. هذا الوعي المتزايد قد يكون بداية لتفكيك شبكة النفوذ الصهيوني.

في العالم العربي، فإن هذا الفهم لتشابك المصالح بين الكيان الصهيوني وأميركا لم يعد تحليلًا نظريًا، بل صار جزءًا من الوعي الجمعي. الكثير من الأنظمة العربية أدركت أن الطريق إلى واشنطن يمر عبر تل أبيب، ولهذا سارعت إلى التطبيع العلني أو السري مع الكيان، أملًا في كسب الرضى الأميركي. وهذا ما يعمّق من اختلال ميزان القوى، ويزيد من عجز القضية الفلسطينية عن أن تجد لها ناصرًا من الداخل العربي، ما دام القرار الإقليمي مرتهنًا للعاصمة التي تحكمها جماعات الضغط الصهيونية.

ومع ذلك كله، تبقى الحقيقة الساطعة التي لا يمكن للنفوذ ولا للدعاية أن يحجباها: أن هذا الاحتلال الصهيوني، مهما امتد ظله وتحالفت معه القوى العظمى، سيبقى مرفوضًا في ضمير الأحرار، وأن الحق الفلسطيني، الذي حُرم منه أهله بدعم من حكومة تُحرّكها مصالح ضيقة وشبكات نفوذ مشبوهة، سيظل حيًّا ما دام هناك من يكتب ويكشف ويواجه، ولو بكلمة.

مشاركة المقال: