تُعلن الحكومة السورية عن ترخيص 1336 مشروعًا صناعيًا وحرفيًا خلال النصف الأول من عام 2024، بقيمة استثمارات تصل إلى 157 مليون دولار، وفقًا لوزارة الاقتصاد والصناعة السورية. هذه الأرقام، رغم ظاهرها الجذاب، تتطلب تحليلًا دقيقًا لفهم أبعادها الحقيقية.
عند تقسيم قيمة الاستثمارات المعلنة على عدد المشاريع المرخصة، نجد أن متوسط قيمة المشروع الواحد يبلغ حوالي 117 ألف دولار فقط، وهو مبلغ يعتبر متواضعًا، مما يشير إلى أن معظم هذه المشاريع ذات حجم صغير وتأثير محدود. والأهم من ذلك، أن 9 مشاريع فقط دخلت حيز الإنتاج الفعلي، أي أقل من 1% من إجمالي المشاريع المرخصة، حسب تقرير وزارة الاقتصاد والصناعة السورية. هذا يكشف عن فجوة كبيرة بين الترخيص والتنفيذ، مما يعكس الصعوبات التي يواجهها المستثمرون على أرض الواقع. فالحصول على ترخيص يختلف تمامًا عن تحويله إلى مشروع منتج في ظل نقص الطاقة، وضعف البنية التحتية، والتعقيدات البيروقراطية المستمرة.
يكشف التوزيع القطاعي للمشاريع عن تحديات هيكلية أيضًا. فعلى الرغم من أن القطاع الكيميائي يتصدر بـ 305 مشاريع، إلا أن معظمها مشاريع تجميع بسيطة وليست صناعات كيميائية متقدمة، وفقًا لتحليل مركز دمشق للدراسات المعتمد كمؤسسة بحثية رسمية لدى وزارة الاقتصاد السورية. هذا يشير إلى استمرار اعتماد الاقتصاد السوري على الأنشطة ذات القيمة المضافة المنخفضة، بدلًا من التحول نحو الصناعات المتطورة المطلوبة.
وفي قطاع الطاقة، على الرغم من الحديث عن مشاريع بمليارات الدولارات، لا يزال المواطن السوري يعاني من انقطاع الكهرباء لمدة تتراوح بين 12 و 16 ساعة يوميًا في معظم المناطق. هذا الواقع يتناقض مع التصريحات الحكومية المتفائلة بشأن حل أزمة الطاقة. فالمشاريع الموقعة تحتاج إلى سنوات لتصبح عملية، بينما الأزمة تتفاقم يوميًا، مما يؤثر سلبًا على المشاريع الاستثمارية الجديدة.
يتزامن هذا المشهد مع تصاعد المشاكل الأمنية، والتي بلغت ذروتها في الاشتباكات التي شهدتها محافظة السويداء. هذه الأحداث تثير تساؤلات حول قدرة الحكومة على إدارة التحديات، وجدوى الرهان على الاستثمارات الأجنبية في سوريا.
المنتدى السعودي: خطوة إيجابية وسط التحديات
وسط هذه التحديات، تم افتتاح منتدى الاستثمار السوري السعودي في دمشق، بحضور وفد سعودي برئاسة وزير الاستثمار خالد بن عبد العزيز الفالح، ويضم أكثر من 130 رجل أعمال ومستثمر سعودي. تم الإعلان عن مشاريع استثمارية، أبرزها مصنع فيحاء للإسمنت الأبيض في مدينة عدرا الصناعية بريف دمشق باستثمار 20 مليون دولار، ومشروع برج الجوهرة العقاري والتجاري في دمشق بقيمة 100 مليون دولار. هذان المشروعان يمثلان نموذجًا إيجابيًا، لكن السؤال يبقى حول قدرة المشاريع الأخرى على اتباع النهج نفسه.
أعلن خالد بن عبد العزيز الفالح عن توقيع 47 اتفاقية ومذكرة تفاهم بقيمة 24 مليار ريال سعودي (6.4 مليار دولار أمريكي). لكن لم يعرف بعد ما المذكرات التي تحولت إلى اتفاقيات رسمية أو مشاريع على الأرض.
الفجوة بين الوعود والتنفيذ: دروس من الماضي
التاريخ السوري مليء بالمشاريع الاستثمارية التي لم تر النور، مثل مؤتمر الاستثمار الخليجي عام 2008 في دمشق. هذا التاريخ يجعل من الضروري التعامل بحذر مع الإعلانات الحالية، حيث تركز الحكومات على الإعلانات أكثر من التنفيذ الفعلي.
التأثير المحدود على الاقتصاد الكلي
حتى لو تم تنفيذ المشاريع المعلن عنها، فإن تأثيرها على الاقتصاد السوري سيبقى محدودًا. فالاقتصاد السوري يحتاج إلى استثمارات بمئات المليارات من الدولارات لإعادة بنائه، وصندوق النقد الدولي يقدر احتياج سوريا 400 مليار دولار لإعادة الإعمار الكامل. الاستثمارات المعلن عنها حاليًا لا تمثل سوى 3% من هذا المبلغ، وتركز على قطاعات محددة دون معالجة التحديات الهيكلية.
المخاطر المخفية
يواجه المستثمرون الأجانب مخاطر جسيمة، حيث تتراوح أقساط التأمين الدولية على المشاريع في سوريا بين 15-25% من قيمة الاستثمار سنويًا. كما أن معظم الاستثمارات مشروطة بتحسن الوضع الأمني والسياسي، وأحداث السويداء أظهرت مدى هشاشة هذا الاستقرار.
الحاجة إلى واقعية أكبر وأداء أفضل
بعد سبعة أشهر من تولي الحكومة السورية الجديدة السلطة، كان أداؤها مختلطًا. نجحت في جذب اهتمام المستثمرين وتوقيع اتفاقيات، لكنها فشلت في تحسين الخدمات الأساسية وإدارة الأزمات. يجب التأكيد على ضرورة الاستثمار في الخدمات الأساسية قبل المشاريع الكبيرة، ووضع آليات شفافة لمراقبة تنفيذ المشاريع.
خلاصة القول
المستقبل الاقتصادي لسوريا سيتحدد بقدرة الحكومة على ترجمة الوعود إلى واقع ملموس، وبناء مؤسسات قوية وشفافة، وتحسين التعليم والصحة، وخلق بيئة تنافسية عادلة. على المواطن السوري أن يحكم على الحكومة بأفعالها وليس بأقوالها، وأن يطالب بالمساءلة والشفافية. الطريق لا يزال طويلًا، والخطوة الأولى هي الاعتراف بالواقع كما هو.