عنب بلدي – شعبان شاميه – تُعد الصناعات النسيجية من الركائز الأساسية للاقتصاد السوري، فهي تمثل دورة إنتاجية متكاملة تبدأ بزراعة القطن وحلجه، مرورًا بالغزل والنسيج، وصولًا إلى صناعة الألبسة الجاهزة. قبل عام 2011، ساهم هذا القطاع بنسبة 24% من الناتج الصناعي غير النفطي، ووفر 30% من فرص العمل في القطاع الصناعي. إلا أن الحرب أدت إلى تدمير المنشآت، ونزوح الكفاءات، وتراجع الإنتاج، وتفاقم الأزمات الإدارية والمالية.
في ظل التغيرات السياسية التي تشهدها سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وتحديدًا في 8 كانون الأول 2024، تلوح في الأفق فرص لإعادة النهوض بهذا القطاع، مثل استعادة مناطق إنتاج القطن، وعودة بعض الصناعيين، والانفتاح الاقتصادي. لكن هذه الفرص تصطدم بتحديات جمة. فما هو توصيف "المؤسسة العامة للصناعات النسيجية" للواقع الحالي، وما هي استراتيجياتها المستقبلية؟
"واقع معقد ومتأزم"
أكد مدير المؤسسة العامة للصناعات النسيجية، عماد علي، في حديثه لعنب بلدي، أن قطاع الغزل والنسيج في سوريا يمر بوضع معقد ومتأزم، خاصة بالنسبة للمعامل المتوقفة عن الإنتاج، مشيرًا إلى وجود جهود حثيثة لإعادة إحيائه. وأوضح أن معظم شركات القطاع العام المتخصصة في الغزل والنسيج لا تزال متوقفة عن الإنتاج بشكل كامل.
ووفقًا لعلي، تشمل الشركات المتوقفة كليًا: "السورية للغزل"، و"الشهباء"، و"الأهلية"، و"سجاد حلب"، و"المغازل والمناسج بدمشق"، و"غزل دير الزور"، و"الصباغة بحمص"، وذلك بسبب الدمار الذي لحق بها. وأشار إلى أن بعض الشركات نجت من أضرار المعارك الحربية، وهي: شركة "الدبس" بدمشق، و"نسيج اللاذقية"، و"غزل جبلة القديم والحديث"، و"خيوط اللاذقية"، و"غزل الحسكة"، في حين تعمل الشركة "الخماسية" بدمشق بشكل جزئي.
تحديات متعددة ومتداخلة
أرجع علي توقف المعامل وتدهور قطاع الغزل والنسيج إلى أسباب متعددة ومتداخلة، أبرزها الحرب والأعمال التخريبية والنهب، حيث تعرضت العديد من المعامل الكبرى، خاصة في حلب التي كانت مركز الصناعة النسيجية، للتدمير الكلي أو الجزئي، أو لسرقة ونهب الآلات والمعدات.
كما لعب نقص وتدهور إنتاج القطن دورًا كبيرًا، إذ كانت سوريا من أكبر منتجي القطن ذي التيلة المتوسطة، وهو من أجود الأنواع عالميًا. وأشار إلى أن إنتاج القطن تدهور بشكل كبير من حوالي مليون طن عام 2006 إلى بضعة آلاف من الأطنان خلال الثورة، بسبب الحرب، وتضرر البنية التحتية الزراعية، وصعوبات الري، وارتفاع تكاليف الزراعة، وسياسات التسعير غير المشجعة للمزارعين.
ولفت مدير المؤسسة إلى أن النقص الحاد في المادة الأولية الأساسية، دفع المصانع للاعتماد على الاستيراد المكلف، وبالتالي ارتفاع تكاليف الإنتاج بشكل هائل، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار المواد الكيماوية وقطع الغيار، بسبب تراجع قيمة الليرة وصعوبة التحويلات المالية. كما أن ارتفاع أسعار المحروقات والكهرباء بشكل جنوني، مع انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة، يرفع تكلفة التشغيل إلى حد كبير ويجعل الإنتاج غير تنافسي.
وتابع أن التكاليف المرتفعة جدًا للاستيراد والتصدير لعبت دورًا سلبيًا، بالإضافة إلى نقص التمويل والبيروقراطية الشديدة، من خلال ضعف نظام الإقراض المصرفي، وصعوبة الحصول على قروض بفوائد معقولة، والبطء باتخاذ القرارات في الشركات التابعة للدولة. وتحدث علي عن فقدان اليد العاملة الفنية والمدربة بسبب الهجرة أو التقاعد المبكر، وانعكاسات ذلك على كفاءة التشغيل والصيانة، بالإضافة إلى تقادم الآلات والتجهيزات، إذ إن معظم خطوط الإنتاج في المعامل الحكومية قديمة وتحتاج إلى تحديث شامل، لزيادة الكفاءة والجودة.
وبيّن مدير المؤسسة العامة للصناعات النسيجية، أن السوق السورية تغرق بالمنتجات المستوردة والمهربة، والتي تكون غالبًا ذات جودة منخفضة وأسعار زهيدة، ما يجعل المنتج المحلي غير قادر على المنافسة.
استراتيجيات إحياء القطاع
أوضح علي أن وزارة الاقتصاد والصناعة السورية تعمل على عدة محاور لإعادة إحياء القطاع النسيجي، تهدف إلى معالجة مجمل التحديات، مبينًا أن أولها إعادة الهيكلة ودمج المؤسسات. وذكر أنه في نهاية عام 2024، صدر مرسوم يقضي بدمج "المؤسسة العامة للصناعات النسيجية" و"المؤسسة العامة لحلج وتسويق الأقطان" في "الشركة العامة للصناعات النسيجية". وأشار إلى أن الهدف من هذا الدمج كان تحقيق التكامل في سلسلة الإنتاج (من القطن إلى الغزل والنسيج)، ورفع الكفاءة، وتقليل التكاليف الإدارية، وتوحيد الجهود. كما تم تشكيل شركات نسيجية بحسب المناطق (الساحلية، الجنوبية، والوسطى) لتحسين إدارة المعامل.
وكشف مدير عام المؤسسة، أن الوزارة تقوم بدراسة الجدوى الاقتصادية لتشغيل الشركات والمصانع المتوقفة وإعادة تأهيلها بما يتناسب مع متطلّبات السوق.
توجهات نحو الخصخصة والاستثمار
لفت مدير المؤسسة العامة للصناعات النسيجية إلى أهمية التشاركية مع القطاع الخاص والاستثمار، إذ تعتبر الوزارة أن النهوض بالصناعة الوطنية لا يمكن أن يتم إلا من خلال إقامة مشاريع مشتركة مع القطاع الخاص، مبينًا وجود دراسة لعدة عروض مقدّمة من القطاع الخاص والدول "الصديقة" للاستثمار في شركات القطاع العام.
وعن صيغ الاستثمار والتشاركية المتوقعة، قال علي، إن ذلك قد يشمل صيغًا مختلفة، كالاستثمار المشترك، إذ يتم تشغيل المعامل المتوقفة بخطوط إنتاج حديثة بالتعاون مع مستثمرين محليين أو أجانب. ومن الصيغ أيضًا، عقود التشغيل والإنتاج، إذ تتولى شركات خاصة تشغيل بعض خطوط الإنتاج أو المعامل بعد إدخال خطوط حديثة تدريجيًا.
ويرى علي أن الخصخصة الكاملة قد لا تكون الخيار المفضّل حاليًا للعديد من المعامل الحكومية، إلا أن الخصخصة الجزئية والتشاركية والبحث عن استثمارات تهدف إلى تحديث الآلات وزيادة الإنتاجية هي جزء من الاستراتيجية. وركّز المدير العام لمؤسسة الصناعات النسيجية على ضرورة دعم توفير مستلزمات الإنتاج، من خلال محاولة تأمين المواد الأولية اللازمة، بما في ذلك القطن، ودعم استيراده إذا لزم الأمر، وتسهيل الإجراءات الجمركية، بالإضافة إلى حماية المنتج المحلي، بالعمل على مكافحة التهريب وفرض رسوم مضادة للإغراق لحماية المنتجات الوطنية من المنافسة غير العادلة.
وشدد علي على ضرورة تحديث خطوط الإنتاج، من خلال تطوير الآلات والمعدات لزيادة الجودة والكفاءة، بما يتناسب مع متطلبات السوق المحلية والخارجية. ولفت مدير المؤسسة إلى أهمية التعاون مع المنظمات الدولية أيضًا، لدعم وتطوير قطاع النسيج في مناطق مثل دمشق وحلب، من خلال إعادة تأهيل المصانع وتدريب العمال.
عودة الإنتاج مرتبطة بمعالجة التحديات
أكد الدكتور عماد علي، أن استئناف الإنتاج بشكل واسع يعتمد على قدرة الوزارة والجهات المعنية على معالجة مختلف التحديات السابقة، مشيرًا إلى محاولات لعودة جزئية للعمل في بعض المعامل. وأوضح أن العودة الشاملة تتطلّب تأمين الطاقة بشكل مستقر وبتكلفة معقولة، مؤكدًا أن ذلك هو حجر الزاوية لأي نهوض صناعي في سوريا، إضافة إلى تأمين المواد الأولية وضخ استثمارات كبيرة سواء من الدولة أو القطاع الخاص أو الأجنبي.
رواتب العاملين المتوقفة
علّق الدكتور عماد علي على الاستفسارات حول رواتب ومنح العاملين المتأخرة، قائلًا إنها "قضية مؤلمة ومعقدة"، وذلك في العديد من الشركات المتوقفة أو التي تعمل بطاقة جزئية. وطالب عمال في شركات غزل جبلة القديم والحديث والخيوط القطنية والنسيج، بتمويل رواتبهم من وزارة المالية أو الحصول على سلف تموّل مستحقاتهم حالهم حال شركات أخرى. وأكد العاملون جاهزيتهم للعودة إلى العمل حال استئناف الإنتاج، والمساهمة في بناء سوريا الجديدة، مطالبين وزارة الاقتصاد والصناعة بعدم التخلي عنهم.
وعزا علي هذا التأخير إلى ضعف الموارد المالية لهذه الشركات في المقام الأول، وعدم قدرتها على تحقيق إيرادات كافية لتغطية رواتب العاملين، خاصة مع توقف الإنتاج. واعتبر أن الرواتب المتأخرة عبء مالي كبير على الميزانية العامة للدولة والشركات، كما أنها تؤثّر سلبًا على معيشة آلاف العمال وعائلاتهم.
وعن خطة "الصناعات النسيجية" لتلافي مشكلة أجور العاملين، أجاب علي بأنه لا توجد لديه معلومات واضحة حول خطة فورية وشاملة لصرف جميع الرواتب والمنح المتأخرة، وغالبًا ما يتم التعامل معها بشكل تدريجي أو عند توفر السيولة وبيع المنتجات المخزّنة حسب أسعار السوق الرائجة بغض النظر عن التكلفة.
ويمر قطاع الغزل والنسيج في سوريا بمرحلة صعبة جدًا، ورغم الخطط الحكومية المُعلنة وجهود الدمج وإعادة الهيكلة، فإن النهوض الحقيقي سيتطلب استثمارات ضخمة، ومعالجة شاملة لمشكلة الطاقة، وتوفير للمواد الأولية، وتخفيف الضغوط الاقتصادية، وهو ما يتطلّب ظروفًا اقتصادية وسياسية أفضل لم تتحقق بعد، وفق ما قاله مدير المؤسسة العامة للصناعات النسيجية لعنب بلدي.