الإثنين, 4 أغسطس 2025 07:29 PM

درعا والسويداء: الجنوب السوري يتجاوز محاولات زرع الفتنة والتفرقة

درعا والسويداء: الجنوب السوري يتجاوز محاولات زرع الفتنة والتفرقة

عنب بلدي – سدرة الحريري: "لا يا جار الرضا اصحى تعاديني.. بيني وبينك يزرعوا شوك الضغينة.. والله دينك على راسي وعلى راسك ديني". بهذه الكلمات، التي تتردد في أغنية مشتركة لكل من سهير صالح ومروة الأطرش، تتجسد طبيعة العلاقة المتينة بين درعا والسويداء، تلك العلاقة التي تجمع مجتمعين في محافظتين تتجاوزان الانقسامات الطائفية والحدود الإدارية.

منذ انطلاق الثورة السورية في درعا عام 2011، توحد أبناء المحافظتين، ليس فقط كجيران في الأرض، بل كشركاء في الحلم والألم والمصير. عندما حوصرت درعا، لم تقف السويداء مكتوفة الأيدي، بل فتحت أبوابها لأهلها، وتطوع شبابها لإيصال الخبز الذي خبزته نساء السويداء، لضمان ألا يبيت طفل جائعًا أو تخمد صرخة في مدينة محاصرة.

منذ الأيام الأولى للثورة، تجاوزت العلاقة بين درعا والسويداء حدود الجغرافيا، لتشكل خريطة من التضامن الحقيقي. خلال حصار درعا، خاطر العديد من أبناء السويداء بحياتهم لدخول المدينة حاملين الخبز وحليب الأطفال والأدوية. يتذكر الناشط السياسي في الحركة الشبابية، جبير السكري، تلك اللحظات قائلًا: "أذكر شابًا وفتاة من السويداء، كانا يخاطران من أجل إدخال المساعدات إلى درعا".

الروابط بين المحافظتين لم تنشأ مع الثورة، بل تعززت خلالها. شهدت مظاهرات درعا مشاركة فاعلة من أبناء السويداء، بمن فيهم تيمور خير الدين، الذي قُتل مؤخرًا في أحداث السويداء، والذي كان يعمل مسعفًا في الهلال الأحمر. يؤكد جبير أن تيمور كان حاضرًا دائمًا في مظاهرات درعا منذ البدايات، وأن الذاكرة الثورية للجنوب كُتبت بأسماء مشتركة.

من جهته، يعبر مجد أبازيد، أحد أبناء درعا، عن امتنانه قائلًا: "كل سوريا جرحتنا، عدا السويداء". ويضيف: "السويداء هي المحافظة الوحيدة التي احتفلت معنا في 18 من آذار، لأنها كانت تعرف تمامًا ماذا يعني لنا هذا اليوم. لم تحتفل مع باقي المحافظات احترامًا لجراحنا". ويتابع: "السويداء دفعت ثمنًا كبيرًا، وقدمت مئات من أبنائها دفاعًا عن درعا، مثل رامي الهناوي، وغيره من المنشقين عن جيش النظام الذين رابطوا معنا في السهل". ويؤكد: "لم أنظم فعاليات ثورية مع أي طرف كما فعلت مع أبناء السويداء، باستثناء أبناء محافظتي".

حين ترد درعا الدَّين

منذ 16 تموز الماضي، تعيش السويداء أزمة إنسانية نتيجة الاشتباكات بين الفصائل المحلية وعشائر البدو وقوات الأمن العام، وسط نقص حاد في المواد الأساسية وانقطاع المحروقات وازدحام على الأفران وانهيار في الخدمات. ورغم دخول بعض قوافل المساعدات، إلا أنها لم تكن كافية لتلبية الاحتياجات المتزايدة والنزوح الداخلي الذي فاقم الوضع. وفي ذروة الأزمة، لم يغب صوت السهل.

على الرغم من تصاعد التوترات الأمنية، استمرت أصوات التضامن بين السهل والجبل. يؤكد الناشط السياسي جبير السكري أن درعا لم تلتزم الصمت إزاء ما يحدث في السويداء، بل شهدت مبادرات إنسانية متكررة بقيادة فرق محلية مثل فريق "عيون درعا". إلا أن غياب الأمن أعاق إيصال الدعم بشكل مباشر، حيث منعت فصائل محلية في السويداء عبور المبادرات بطريقة غير مباشرة، عبر رصد الطرق وجعلها غير آمنة.

ورغم هذه التحديات، حملت المبادرات الفردية الكثير من الدفء. تروي الناشطة نبال النبواني، ابنة السويداء، موقفًا مؤثرًا قائلة: "أحد رجال درعا، يعمل في تجارة الإسفنج داخل السويداء، قال لي: خذي كل ما في المحل ووزعيه على الأهالي". وتضيف أن هذا الموقف البسيط يجسد إنسانية الجنوب ويتجاوز الجغرافيا والسياسة.

اليوم، وبعد النزوح القسري الذي طال العديد من أبناء جبل العرب، فتحت بيوت درعا أبوابها لهم. في قرى ناحتة والحراك والكرك الشرقي وأم ولد وبصرى الشام، لم يعامل أهالي السويداء كضيوف، بل كأهل. يشير جبير إلى حالة السيدة نوال فخر، التي انتشرت صورة لها مع رئيس الأمن الداخلي في أحد منازل درعا، كرمز للتلاحم في وجه الانقسام.

كما كان الجانب الصحي شاهدًا آخر على هذا التضامن، حيث استقبلت مستشفيات درعا، وعلى رأسها مستشفى الصنمين، العديد من المصابين، من بينهم الشاب فادي الحلبي وعائلته. ويؤكد جبير أنه كان على تواصل مباشر مع مدير الصحة في درعا ومعاون وزير الصحة لضمان علاجهم.

يختصر قاسم الحريري، من أبناء درعا، هذه الروح قائلًا: "لم أعد يومًا من السويداء دون أن أكون محمّلًا بأكياس الزبيب ومكرّمًا بالمناسف، واليوم، أصدقائي من السويداء يسكنون في مضافاتنا، حتى تعود قراهم ومدنهم آمنة وسعيدة. ونحن سنبنيها معًا، كما كنا دومًا".

درعا والسويداء.. وحدة تتحدى الفتنة

على الرغم من محاولات النظام السوري المتكررة لتفكيك الروابط العميقة بين محافظتي درعا والسويداء، عبر تغذية الانقسامات الطائفية وتحويل الحوادث الفردية إلى خلافات جماعية، ظل أبناء الجنوب السوري يقاومون هذا النهج بإرثهم المشترك ومواقفهم الأخلاقية.

لم تفلح آلة التحريض في كسر الروح الإنسانية التي تجمع أبناء الجبل والسهل. ففي ذروة التوتر، واصل أطباء من السويداء أمثال الدكتور طلعت عامر، الذي قُتل خلال الأحداث الأخيرة، معالجة جرحى درعا، رغم التهديدات التي وصلت حد الفصل من النقابات. لم يساوموا على كرامتهم، لأن القيم في الجنوب لا تُقاس بالمال، بل بالإنسانية والتضامن.

يرى الناشط جبير السكري أن العلاقة بين المحافظتين كانت أقرب إلى علاقة "إخوة لا يفرق بينهم سوى الموت"، لكن الأحداث الأخيرة خلّفت جرحًا اجتماعيًا عميقًا، وأسهم التحريض المتعمد في إذكاء التوتر. ويضيف: "الدماء التي سقطت من الطرفين صنعت حاجزًا نفسيًا يحتاج إلى وقت وجهد لتجاوزه"، مؤكدًا أن دور العقلاء والناشطين والصحفيين سيكون محوريًا في ترميم النسيج الاجتماعي.

ويشدد جبير على أن ما جمع المحافظتين لعقود من الجيرة إلى التضحيات المشتركة في مواجهة الاستبداد لا يجب أن يُمحى. "دماء خلدون زين الدين وكل شهدائنا هي عهد لا يُنسى، ولا يمكن أن تفرّقنا سياسات أو مصالح". ويضيف أنه رغم الألم، ما زال أبناء درعا والسويداء متمسكين بأمل مشترك، أن يعيدوا للجبل والسهل روح الثورة التي واجهت بطش النظام السابق كتفًا بكتف.

ويختم جبير قائلًا: "لن نسمح للغرباء أن يكتبوا تاريخنا، ولا للسياسة أن ترسم حدود قلوبنا، نحن أبناء الجبل والسهل معًا، أبناء الثورة، ولن تليق بنا الفتنة".

مشاركة المقال: