في زمن تتفتت فيه الأوطان وتتشظى فيه المعاني، كان يُنتظر من المثقف، كما يقول المهندس نضال رشيد بكور، أن يكون البوصلة الأخلاقية، الصوت الذي لا يخفت حين يصمت الجميع، والسراج الذي يضيء العتمة حين يعمّ الظلام. لكن الخيبة كانت أوسع من التوقع، وأقسى من الرجاء.
فبدل أن يشكّل المثقفون جبهة وعي مقاومة للانحدار، انزلق كثير منهم إلى تمثيل أبشع وجوه الانتماء الضيق، صاروا لسان حال الطائفة، وصدى القبيلة، وواجهة لخطاب لا يرى في الوطن سوى حصص موزعة بين الولاءات. لم يخرجوا من دوائرهم الصغيرة، بل باركوا انكماشهم عليها، وأضافوا على قيد الانتماء أقفالاً من التبرير والإنكار، حتى صار الوطن مرآة مشروخة لانكساراتهم الأخلاقية.
الحياد مات، والنزاهة أصبحت تهمة. اختار من يُفترض أن يكونوا نخبة الاستسلام، وسلكوا طريق الاصطفاف لا المساءلة، التحزّب لا التحرر. بدلاً من الوقوف في وجه التطييف والتحريض، شاركوا في حفلة الانحدار الكبرى، وارتدوا أقنعة الشجاعة بينما كانوا في الحقيقة يركضون خلف التصفيق الرخيص.
لم يعد للحق مكان، لأن الكلمة أصبحت سلعة، تُصاغ وفقاً للمصلحة لا للمعنى. الخطاب الذي كان من المفترض أن يوحّد، تحوّل إلى أداة تفتيت، تُذكي النار تحت رماد وطن محاصر بالخذلان. في كل منبر، وكل مقال، وكل خطاب، كان وقع الخيانة أكبر من أي صوت. يرقصون على حافة الانهيار، يتباهون بثقافتهم وهم يضخون الوقود في ماكينة الانقسام. لا يخشون السقوط، لأنهم منذ زمن قد تخلّوا عن أي ارتفاع.
الصمت أحياناً أصدق من كلامهم، والنأي عن خطاباتهم أصدق موقف يمكن اتخاذه. لسنا نبحث عن الكمال، ولا نطالبهم بالعصمة، لكننا نرجو الصدق. نبحث عن من لم يبع المعنى في سوق الطائفية، ولم يختزل الوطن في خندق. نحن نبرأ من خطابات تُبنى على الحقد، وتُروَّج بالزيف، وتُهلَّل لها من جمهور بلا ذاكرة. نبرأ من حروف تعلن الطهر وهي تغمس يدها في وحل الاستقطاب. نبرأ لأننا نحب هذا الوطن، لا لأننا نكرههم، ولكن لأنهم خانوه باسم الثقافة، وتركوه جثة تتنازعها الولاءات.
ما أكثر من تحدثوا باسم الوطن، وما أقل من حافظوا عليه. (موقع اخبار سوريا الوطن-2)