عنب بلدي – سدرة الحريري
أثارت عبارة "بوليفارد النصر.. يد بيد منعمّرها سوا"، التي انتشرت على اللوحات الإعلانية في شوارع مدينة حمص في مطلع حزيران الماضي، موجة استياء بين السكان المحليين. شهد حي القرابيص وقفة احتجاجية نظمها عدد من الأهالي ضد مشروع "بوليفارد النصر"، حاملين لافتات كُتب عليها "لا بوليفارد، لا للتهجير".
كما رصدت عنب بلدي منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي ترفض المشروع، وتطالب بإجابات حول تعويض أصحاب الأراضي الذين تم تهجيرهم قسرًا في زمن نظام الأسد من الأراضي التي يقام عليها مشروع "بوليفارد النصر"، والذي كان يحمل اسم "حلم حمص".
"بوليفارد النصر" هو مشروع تطوير عقاري يهدف إلى إعادة تنظيم مدينة حمص على أسس عصرية تراعي حماية البيئة وإنتاج الطاقة البديلة وتجميل الواجهات. ويرى الكثيرون أن هذا الشعار الدعائي لا يعكس حقيقة المشروع، بل هو تتويج لعملية بناء اتسمت بانعدام الشفافية والتعتيم الإعلامي، وفقًا لآرائهم.
الانتقادات لم تقتصر على طريقة الإعلان، بل طالت الأرض المقام عليها المشروع، حيث يقول الأهالي إنها تعود لأبناء حمص، وقد تم الاستيلاء عليها من قبل النظام السابق تحت ذريعة "الاستملاك" لإنشاء ما سمي حينها "حديقة الشعب".
تشير مصادر محلية إلى أن الأراضي الواقعة في بساتين القرابيص، الممتدة من الكورنيش وحتى عاصي الميماس، تم وضع إشارة حجز عليها منذ سنوات، مما منع بيعها أو التصرف بها، ثم تم استملاكها رسميًا، لتتحول لاحقًا إلى مشروع عمراني استثماري يُنظر إليه على أنه تعدٍ على أملاك السكان.
التقى محافظ حمص، عبد الرحمن الأعمى، بالمحتجين من حي القرابيص للاستماع إلى مطالبهم وملاحظاتهم، في 11 من آب الحالي، واعدًا إياهم بعدم بدء المشروع في حيهم قبل موافقة السكان، والتعويض الكامل من الشركة لأصحاب الأراضي.
ما "بوليفارد النصر"؟
حسب المعلن من قبل محافظة حمص، يتميز مشروع "بوليفارد النصر" بتعدديته الوظيفية، إذ لا يقتصر على إنتاج وحدات سكنية، بل سيكون منطقة حضرية متكاملة، وسيشمل:
- إنشاء 4500 وحدة سكنية بمواصفات حديثة.
- تأهيل حديقة النصر كمتنزه عام.
- تشييد مرافق تجارية واستثمارية.
- إنشاء سوق "هال" جديد ليواكب تطورات المدينة ومتطلبات التجار والسكان على حد سواء.
- إنشاء شبكات بنية تحتية جديدة تشمل المياه، الكهرباء، الصرف الصحي، الغاز، الطرقات، بتصميم معماري يعكس هوية المدينة ويخدم مختلف فئات المجتمع.
- سيوفر نحو 15,000 فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة خلال فترة التنفيذ، بما يشكل دفعة اقتصادية مهمة في مدينة تعاني من ركود مزمن.
يمتد المشروع من بداية شارع نزار قباني حتى منطقة الميماس، ويشمل أحياء مثل القرابيص وسوق الهال. ويعد "بوليفارد النصر" واحدًا من سلسلة مشاريع نقطية تستهدف إعادة إعمار المناطق المتضررة في حمص، التي تعاني من تدهور واسع في البنية التحتية وأزمة في شبكات الطرق، مع وجود 13 حيًا متضررًا بحاجة إلى مخطط تنظيمي جديد، بحسب ما قاله مسؤول العلاقات العامة في محافظة حمص، محمد جوخدار، لعنب بلدي.
الشركة المستثمرة وبنود مذكرة التفاهم
تمت الإشارة إلى اسم الشركة المستثمرة في مشروع "بوليفارد النصر" على اللوحات الإعلانية الموزعة في شوارع حمص، حيث ورد الاسم باللغة الإنجليزية بصيغة "Al Omran Real Estate Develope"، وهذا ما تم تأكيده في مراسم توقيع مذكرات تفاهم استثمارية، في 7 من آب الحالي، في قصر "الشعب" بدمشق.
شركة "العمران" هي شركة مساهمة مغفلة كويتية، تأسست عام 2006، يملكها المهندس ورجل الأعمال السوري رفاعي حمادة. تشمل المذكرة التزامات واضحة من الطرفين، إذ تتكفل شركة "العمران" بإعداد الدراسة التفصيلية، وتنفيذ مشاريع البنية التحتية، والمباني السكنية والتجارية، إضافة إلى تطوير حديقة "النصر" وإنشاء سوق "هال" حديث.
في المقابل، تلتزم المحافظة بتسهيل الإجراءات الإدارية، وتقديم البيانات الفنية، وتشكيل لجان إشراف ومتابعة تضمن سير العمل ضمن الأطر القانونية والفنية للجمهورية العربية السورية.
"حلم حمص".. الذي بات كابوسًا
يعود مشروع "حلم حمص" إلى عام 2005، حين أطلق محافظ حمص، إياد غزال، مبادرة لتحديث البنية العمرانية في المدينة، بتكليف مكتب هندسي خاص من مدينة حلب بإعداد دراسة شاملة للتطوير العمراني. شملت الدراسة مسحًا ميدانيًا واسعًا لمحافظة حمص، أعقبه إعداد مخططات تنظيمية تحت عنوان "حلم حمص"، هدفت إلى إعادة هيكلة المدينة وتوسيعها عمرانيًا.
غطى المشروع تسع مناطق رئيسة في المحافظة، هي: الرستن، تلكلخ، الحولة، القصير، حسياء، الوداي، المخرم، المنطقة الشمالية، تدمر، إلى جانب "حمص الكبرى". وتضمنت الخطط مشاريع كبرى أبرزها: إنشاء "حديقة الشعب"، نقل المنشآت الصناعية للقطاع العام إلى خارج المخطط التنظيمي، تطوير "مجمع النماء"، تنظيم وسط المدينة، بالإضافة إلى مشروع لمعالجة العشوائيات.
وتبنى المشروع شعار "لكل منطقة حلم"، في إشارة إلى تقديم رؤية تطويرية مخصصة لكل منطقة ضمن النطاق المستهدف، بما يعكس احتياجاتها وأولوياتها العمرانية. إلا أن المشروع أثار منذ لحظة الإعلان عنه، جدلًا واسعًا في الأوساط الشعبية، وسط اتهامات طالت المحافظ غزال بالسعي إلى إفراغ المدينة القديمة من سكانها الأصليين، وتحويل مركز حمص إلى منطقة سياحية بحتة، على حساب البنية الاجتماعية القائمة.
وتصاعدت هذه الانتقادات لاحقًا لتتحول إلى شعارات احتجاجية خلال المظاهرات التي شهدتها المدينة عام 2011، وتضمنت مطالبات بوقف المشروع واتهامات بتنفيذ مخطط للتغيير الديموغرافي في المدينة. ورغم الضجة التي أُثيرت حول المشروع، لم يُنفّذ أي من بنوده الأساسية على أرض الواقع، وبقي "حلم حمص" مشروعًا مؤجلًا تحيطه الشكوك والنزاعات أكثر مما تحيطه الإنجازات.
بساتين حمص.. استملاك بلا تعويضات
"(حلم حمص) لا يبدأ بإصدار المخطط التنظيمي الجديد للمحافظة، ولكن يبدأ بمصادرة مجموعة من الأراضي"، قال الباحث والخبير الاقتصادي خالد تركاوي، في مقابلة له مع مؤسسة "الذاكرة السورية". وأضاف أن احتجاجات نظمها الناس أكثر من مرة بطريقة مظاهرة، وبطريقة كتابة مقالة بالتعاقد مع بعض الصحفيين، الذين يعرفون الموضوع، و"لكن دون نتيجة"، وامتد المشروع إلى درجة أن يصدر مخطط تنظيمي كامل.
في عام 1994، صدر قرار مجلس الوزراء رقم "5047" القاضي باستملاك مساحة تقدّر بـ462 دونمًا من بساتين مدينة حمص، تحت ذريعة إنشاء مشروع "حديقة الشعب"، باعتباره مرفقًا للمنفعة العامة. غير أن ما بدأ كمشروع بيئي وتنموي، سرعان ما تحول إلى مصدر استياء واسع بين أصحاب الأراضي، الذين فوجئوا لاحقًا بقيام السلطات المحلية، وعلى رأسها محافظ حمص حينها، بتخصيص الأرض لمشاريع استثمارية تجارية، بعيدًا عن الهدف المعلن للمشروع الأصلي.
البساتين، التي لطالما شكّلت ما يُعرف بـ"رئة حمص"، كانت مصدر رزق لأكثر من 1500 مواطن، يعيشون ويعملون في هذه الأراضي الزراعية الغنية، ويعتمدون على إنتاجها الزراعي كمورد أساسي للعيش، ومع ذلك، تم استملاكها قسرًا دون تقديم تعويضات مادية أو سكنية لأصحابها، رغم الوعود الرسمية التي تحدثت عن بدائل تشمل تعويضات نقدية ومنازل سكنية.
وبحسب روايات الأهالي، فقد تم الإعلان عن أن تنفيذ الحديقة سيكون في عام 2008، ما منح السكان فرصة للطعن بالاستملاك قانونيًا، إلا أن هذه الإجراءات القضائية لم تُستكمل، الأمر الذي استغلته الجهات المعنية للاستمرار في تنفيذ خططها، وبينما أكدت الحكومة حينها أنها تواصل العمل على إنشاء الحديقة، كان السكان يرون أن المشروع انحرف عن مساره ليخدم مصالح استثمارية على حساب حقوقهم ومصدر معيشتهم.
من محمد إياد غزال؟
شغل محمد إياد غزال منصب محافظ حمص بين عامي 2005 و2011، وكان مقربًا من النظام السوري السابق، وعمل مديرًا للقصر الجمهوري في حلب، ومؤسسة الإسكان العسكرية. وهو حاصل على شهادة في الهندسة الميكانيكية من جامعة "حلب"، وشريك مؤسس في شركة "شوستر بكتولد- سوريا للاستشارات الهندسية"، ويمتلك 510 حصص في الشركة بنسبة 51%.
"قانون جائر".. وتعويض غير مضمون
انتقد محامون سوريون قانون الاستملاك رقم "20" لعام 1983، المعمول به في البلاد، معتبرين أنه يمنح الدولة صلاحيات واسعة في الاستيلاء على الأراضي بحجة تنفيذ مشاريع للنفع العام، في حين تبقى حقوق المالكين السابقين محل جدل.
المحامي محمد عمران، أوضح في حديث إلى عنب بلدي، أن القانون يمنح الجهات العامة الحق في استملاك العقارات لاستخدامها في مشاريع سياحية أو خدمية باعتبارها من "النفع العام"، مضيفًا أنه إذا زالت هذه الصفة بعد التنفيذ، تُسجَّل ملكية العقار باسم الجهة المستملكة وتصبح حرة في التصرف به.
وبحسب عمران، فإن مرور خمس سنوات على الاستملاك كفيل بتحويل ملكية الأرض بشكل نهائي إلى الدولة، ما يجعل التعويض مرهونًا فقط بعقود تبرم مع الجهات التي تتعهد بذلك. لكنه اعتبر أن الإعلان عن مشروع "بوليفارد النصر" قبل توقيع مذكرة تفاهم يعد مخالفة قانونية، لعدم الالتزام بإجراءات وقوانين الاستثمار المقررة.
من جانبها، أشارت المحامية لمى عصام الجمل، إلى أن القانون ينص على وجوب استخدام العقار المستملك للنفع العام، وأن أي تغيير في الغاية قد يُعتبر "انحرافًا" يفتح باب الطعن أو المطالبة بتعويض إضافي، وهو أمر غالبًا ما يصطدم بعقبات قانونية إذا مضت سنوات طويلة وسُجّل العقار باسم الدولة.
وفيما يتعلق بالتعويض، أوضحت الجمل أن ملكية الدولة للعقار تصبح تامة بمجرد صدور مرسوم الاستملاك ودفع التعويض المقرر في حينه، ولا يحق للمالك السابق المطالبة بحقوق جديدة إلا إذا لم يُدفع التعويض أو كان مجحفًا.
وأضافت أن الاستثناء الوحيد يتمثل في إثبات أن الغاية من الاستملاك لم تتحقق، وهو ما قد يبرر المطالبة برد العقار أو الحصول على تعويض جديد، لكن هذا السيناريو نادر ويعتمد على قرار استثنائي من الدولة أو حكم قضائي خاص.
وأكدت أن القانون السوري لا يلزم الدولة بتعويض جديد لمجرد تغيير الغرض من العقار بعد عقود، إلا إذا نص على ذلك مشروع محدد أو قرار حكومي، وهو ما يبدو مطروحًا حاليًا على شكل "وعود بالتعويض".
وختمت الجمل بأن استثمار الدولة لأي أرض سُجلت باسمها بموجب مرسوم نافذ ودُفع ثمنها سابقًا، يعد قانونيًا من حيث الملكية، حتى إذا تغيّر الغرض من استخدامها. لكنها شددت على أن من منظور العدالة والشفافية، فإن عدم تنفيذ المشروع المعلن قد يبرر أخلاقيًا إعادة النظر في التعويضات لمصلحة المالكين السابقين.
ماذا تقول المحافظة والمستثمر
محافظ حمص، عبد الرحمن الأعمى، ذكر أن مشروع "بوليفارد النصر" سيكون نقطة انطلاق نحو إعادة إعمار الأحياء المتضررة في المدينة، مشيرًا إلى تخصيص جزء منه لذوي الدخل المحدود وعائلات الشهداء، وتحديد مهلة زمنية أقصاها ثلاثة أشهر للتوصل إلى اتفاق مع سكان حي القرابيص بشأن بدء أعمال الإعمار.
جاء ذلك خلال مؤتمر صحفي عُقد، في 11 من آب الحالي، بمبنى المحافظة، بحضور ممثل الشركة المنفذة (شركة العمران للتطوير والاستثمار العقاري)، المهندس رفاعي حمادة. وأوضح المحافظ أن نطاق المشروع يشمل مناطق المصابغ وسوق "الهال"، مع إمكانية تقسيم حي القرابيص إلى قطاعات لاتخاذ القرارات وفق موافقة أغلبية السكان في كل قطاع، بما يتيح المضي قدمًا في التنفيذ دون انتظار موافقة جميع المالكين دفعة واحدة.
ممثل الشركة، رفاعي حمادة، أوضح من جانبه خلال المؤتمر، أن آليات التعويض المعتمدة ستضمن منح كل صاحب حق عقارًا بديلًا مماثلًا لطبيعة ملكيته، سواء كان محلًا تجاريًا أو منزلًا، على ألا يبتعد الموقع الجديد عن العقار الأصلي أكثر من 900 متر، مشيرًا إلى أن التعويض سيكون بنسبة 100% معتبرًا أن التعويض المادي يسهم في تهجير المدنيين وهو ما يتعارض مع الهدف الأساسي للمشروع المتمثل في إعادة الإعمار.