في مطلع الألفية الثالثة، وُجه نقد لاذع للروائي السوري حنا مينه (1924-2018)، حيث لُقب بـ "همنغواي العرب". انتقد البعض تصويره ككاتب بحري بارز في العالم العربي، بحجة أنه لم يعش تجربة البحر بشكل كامل. ورداً على هذا النقد، أُعتبر إبداع حنا مينه في الكتابة عن قضية لم يعشها تجسيداً للإبداع الحقيقي، وقدرة فائقة على التجسيد والتخييل، على غرار نزار قباني في تصوير قضايا المرأة ومحمد الماغوط في الكتابة عن السجن.
إلا أن حنا مينه كان قريباً من البحر، عاملاً في مرافئه، وصديقاً لأمواجه لفترة طويلة قبل استقراره في دمشق. نتذكر اليوم حنا مينه في ذكرى وفاته، الذي ترك إرثاً أدبياً ضخماً يقارب الثمانين رواية ومجموعات قصصية، مما يجعله الأغزر إنتاجاً في الرواية السورية. لم يكن حنا مينه كاتباً عادياً، بل بحاراً في محبرته، قاد قراءه عبر أمواج الكلمات إلى شواطئ الإنسانية والكفاح والحب.
يُعتبر حنا مينه أحد مؤسسي الواقعية الاشتراكية في الأدب العربي، وحصل على لقب "شيخ الرواية السورية" بجدارة، من خلال تجسيد سيرته الذاتية في الكفاح والإشارة إلى الصراع الطبقي. عاش طفولة قاسية في إحدى قرى اللاذقية، وعانى من الفقر، مما جعله صوتاً للفقراء والمهمشين والبحارة. تميزت رواياته بسحرية عالية توازي ما وسم النتاج الروائي في أمريكا اللاتينية.
على الرغم من إنتاجه الغزير، تبقى ثلاثية حنا مينه: "حكاية بحار، الدقل، المرفأ البعيد" الأبرز في مسيرته. يرى الناقد مهدي عبيدي في كتابه (جماليات المكان في ثلاثية حنا مينة) أن الثلاثية تقوم على حكايتي صالح حزوم وابنه سعيد حزوم، حيث يمثل الأب رمزاً للماضي المجيد، والابن رمزاً للصمود الشعبي. وقد حقق الروائي شروط الواقعية من خلال تحليل الواقع ونقده، والفهم الجماعي للظواهر الاجتماعية، والتأكيد على انهيار الفساد والفقر.
يشير الناقد عبيدي إلى أن المكان يتشكل باختراق الأبطال له، ويعبر عن مشاعرهم بلغة فريدة. فالبحر يمثل العشق والجمال والحرية والحياة، وهو رمز الاستمرارية والميلاد.
من بين رواياته البحرية الأخرى، كتب حنا مينه "الياطر"، التي تعمق الصراع الطبقي، حيث تمثل السفن الكبيرة رمز القوة والمال. وفي "الشراع والعاصفة"، تصل الروح البحرية ذروتها الدرامية والإنسانية، حيث يختلط الحب بالسياسة، والنضال الشخصي بالنضال الجماعي. "العاصفة" هنا ليست فقط عاصفة بحرية، بل عاصفة الحياة والثورة.
انتقلت روائع حنا مينه من الكتب إلى الشاشة، حيث تحولت العديد من رواياته إلى أفلام ومسلسلات، مثل الثلاثية البحرية، ورواية "نهاية رجل شجاع" التي تحولت إلى فيلم سينمائي شهير في سنة 1994 من إخراج محمد شاهين، و"المصابيح الزرق" التي تحولت إلى مسلسل درامي ناجح، و"الشمس في يوم غائم" التي مثلت كفيلم سينمائي آخر. في ذكرى رحيله، يبقى حنا مينه بحاراً أبحر بعيداً، لكن شراع سفينته لا يزال مرئياً على أفق الأدب العربي.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية