عنب بلدي – كريستينا الشماس
يمثل التراث الشعبي في الجنوب السوري، وتحديدًا بين محافظتي درعا والسويداء، دعامة أساسية للحفاظ على الهوية السورية الجامعة. على الرغم من التنوع المذهبي والاجتماعي، تعكس القيم والعادات المشتركة بين المحافظتين تاريخًا عريقًا من التعايش والتعاون.
مع مرور الوقت، أصبحت المضافات والأعراس واللباس التقليدي والأغاني التراثية والأكلات الشعبية المشتركة تعبيرًا عن ذاكرة جماعية للتراث والعادات التي تجمع بين المنطقتين. وقد أثبتت هذه المشتركات أن الجوار الجغرافي في سوريا قد تطور إلى علاقة إنسانية وثقافية عميقة الجذور، مما يضمن تجاوز كل الصعوبات التي واجهت المنطقة نتيجة للظروف الأمنية التي تمر بها البلاد.
"المضافات".. أبواب مفتوحة للجميع
تعتبر المضافة قلب الحياة الاجتماعية في محافظتي درعا والسويداء. وهي عبارة عن غرفة خاصة أو بناء مستقل مخصص لاستقبال الضيوف، وتظل أبوابها مفتوحة على مدار الساعة. لا يحتاج الزائر إلى دعوة لدخولها، بل يُعتبر ضيفًا مرحبًا به دائمًا.
في ثقافة أهالي الجنوب، لا تقتصر وظيفة المضافة على الضيافة فحسب، بل تمتد لتشمل حل النزاعات وعقد مجالس الصلح. يروي سليمان اللابد، من أبناء السويداء، لـ عنب بلدي، عن خصوصية المضافات في الجنوب، والتي تعد مكانًا لاستقبال الضيوف والاستماع إلى طلباتهم، وملجأ لحل الأزمات، ومركزًا لتوزيع الطعام والشراب على الجيران في الأوقات الصعبة.
كما تعبر المضافة عن الكرم الاجتماعي، حيث تُقدم القهوة العربية باستمرار، ويعتبر تقديم فنجان منها للضيف إعلانًا عن الترحيب والتقدير. ويضيف سليمان: "في مضافات الجنوب، كان فنجان القهوة كافيًا لإعلان التسامح في جلسات الصلح".
الكرم الجنوبي.. سمة مشتركة
يشير سليمان إلى أن الكرم في الجنوب السوري ليس مجرد عادة، بل هوية متوارثة. فالزائر لأي قرية في درعا أو السويداء لن يغادر دون أن يُقدم له الطعام والشراب، وكأن البيوت تتحول إلى مضافات صغيرة.
في الأعراس، تُذبح الخراف ويجتمع أبناء القرية لتقديم الولائم بشكل جماعي، حيث يتشارك الجميع في الطهو والتقديم. ويتذكر سليمان قصصًا عن ضيوف عابرين للقرى وجدوا بيوت الجنوب مفتوحة أمامهم، فأُكرموا وأُطعموا دون أن يُسألوا عن هويتهم، مما يعكس أن الكرم ليس سلوكًا فرديًا عابرًا، بل تقليد اجتماعي متجذر في التراث الجنوبي.
يعد منسف "المليحي" من أبرز مظاهر الكرم الجنوبي، ويعتبر سمة اجتماعية مشتركة في الجنوب بين المسلمين والمسيحيين. يتميز بأنه طبق جماعي يُحضر في جميع المناسبات واستقبال الضيوف.
تعتمد أكلة "المليحي" في درعا والسويداء على مكونات تعكس طبيعة المنطقتين واقتصادهما ومنتجاتهما الزراعية والحيوانية، فالجميد (اللبن المجفف) يذاب ويطهى مع لحم الغنم، ثم يسكب على البرغل والخبز العربي، ويضاف إليه السمن العربي، وكلها مواد ينتجها أبناء المنطقة.
هناك عادات مشتركة لتناول "المنسف"، حيث يجتمع الرجال والنساء حوله ويأكلون بأيديهم، في مشهد يعكس روح المشاركة والتآلف. تقول "أم وائل البالوع"، من قرية المسمية في درعا، إن أكلة "المليحي" لها مكانة كبيرة عند أهالي حوران سهلًا وجبلًا.
وتتحدث "أم وائل" عن كيفية تعاون نساء القرية في تحضير "الجميد" المجفف من لبن الغنم، بينما ينشغل الرجال بذبح الخراف وتجهيز اللحم. وتضيف: "في أعراسنا، لا يكتمل الفرح إلا إذا قُدم منسف المليحي على الموائد، كما أن الضيف يعرف مكانته بقدر ما يُكرم بهذه الأكلة".
"الجوفيات".. صوت التراث في الأعراس
تعتبر "الجوفيات" من أبرز مظاهر الفرح الجنوبي في درعا والسويداء، وعلامة على التضامن بين الأهالي، حيث يشارك فيها الجميع، رجالًا ونساء، لتتحول إلى لوحة شعبية متكاملة لا يخلو منها أي عرس.
وهي عبارة عن تجمع كبير للرجال في ساحة العرس، قد يتجاوز عددهم المئة، يقفون ضمن حلقة واسعة، ويرددون أهازيج وأغاني خاصة بـ"الجوفيات" تمجد العريس وأهله. تتعالى أصوات الرجال بتناغم جماعي، فتضفي على المناسبة هيبة وبهجة، بينما تشارك النساء برفع المناديل البيضاء والرقص ضمن حلقة، في مشهد يختصر وحدة التراث والاحتفال.
يقول غسان بريك من قرية خربا الحدودية بين السويداء ودرعا، إن "الجوفيات عندنا مثل إعلان رسمي للفرح، لا يكتمل العرس من دونها، فهي تعلن أن العريس أصبح رجل البيت، وأن القرية كلها تشاركه فرحته". ويضيف أن النساء كن يتسابقن لحمل المناديل والرقص بها إلى جانب صفوف الرجال، "تعتبر الجوفيات بالنسبة لنا لحظة عز وفخر بتراثنا، فهي تعني أن العرس أصبح عرسًا للقرية كلها لا للعائلة فقط"، بحسب تعبير غسان.
تحمل "الجوفيات" قصصًا متوارثة عن أعراس قديمة كان يُسمع صداها من قرية إلى أخرى بسبب قوة أصوات الرجال في ترديد الأهازيج، حتى إن بعض الأهالي كانوا يعرفون أن هناك عرسًا في القرية المجاورة فقط من سماع صوت "الجوفيات"، بحسب غسان.
التراث المشترك.. حلقة وصل
لا يقتصر التراث الجنوبي على المأكل والضيافة والأعراس، بل يمتد ليشمل الغناء الشعبي الذي يعكس قصص الكرم والجود والشجاعة لأهالي الجنوب، والتي عزفت على ألحان الربابة.
كما يشترك أبناء درعا والسويداء في ارتداء اللباس التقليدي، فيغلب على زي الرجال "الشروال" الفضفاض في العمل أو خلال الأوقات الاعتيادية، و"الجلابية" بعد العودة إلى البيوت نهاية اليوم، وفي المناسبات أو السهرات، وكذلك "العقال" مع "الشماغ" أو "القضاضة". أما النساء، فيبرز زيهن الشعبي بتطريزاته الدقيقة مع "الحجاب" أو "الشال".
تختلف التفاصيل حسب المناسبة، إذ تكون الأثواب في الأعراس أكثر بهاء وزخرفة، بينما تكون أكثر بساطة في الحياة اليومية، وهناك اختلاف حسب الجيل والمنطقة بسبب الخصوصية الاجتماعية والدينية.
ومن العادات المتوارثة أيضًا "العونة"، إذ يشرح غسان أنها تقليد يقوم فيه أهالي القرية بالتعاون على الحصاد أو بناء المنازل، ليعكس السلوك التضامني قيمة التكافل الاجتماعي التي تجمع المحافظتين.
كما ترتبط المناسبات الدينية بالتراث الشعبي، فيقيم الأهالي الولائم، ويزورون بعضهم بعضًا بغض النظر عن الاختلافات الطائفية.
التراث المشترك بين درعا والسويداء يعد حلقة وصل بين الأجيال، وعلى الرغم من الظروف الصعبة والأزمات التي مرت بها المحافظتان، فإن هناك سجلًا حيًا في العلاقة التاريخية المتينة والمواقف الثورية المتشابهة، التي برهنت للجميع أن القيم التي توحد أهالي الجنوب أقوى من الظروف التي قد تفرقهم.
غسان بريك
من قرية خربا الحدودية بين محافظتي درعا والسويداء