يمكن لخطيب بدلة أن يتعرف على شخصيات شعبية فكهة، تصدر عنها تصرفات أو أفكار مضحكة بشكل عفوي. لطالما نظر المجتمع إلى هؤلاء الأشخاص بالكثير من المحبة، وتسعى المجموعات الصغيرة، التي تسمى "الشلل"، لاستضافتهم للاستمتاع بقفشاتهم ومزحاتهم. وإذا كان الشخص الظريف فقيرًا، غالبًا ما يُعفى من دفع ثمن الطعام أو الشراب.
لكن عندما يزداد الطلب على الشخص الظريف، يبدأ بالاختباء والتهرب، فيقال: "فلان ما عم يصحّ لحدا". كان "أبو العبد" من أكثر الأشخاص الذين قابلتهم ظرفًا وفكاهة. تبدأ الحكاية عنده بموقف صغير يمكن أن يُروى بجملتين أو ثلاث، ثم تنتهي. ولكننا، في سبيل بحثنا عن الضحك، كنا نطالبه بإعادة سوالف سبق لنا أن سمعناها منه، وهو يستجيب لرغبتنا. ولأنه إنسان مبدع، كان يضيف إلى حكايته فصلًا جديدًا، حتى أصبح سرد قصته مع البقال "الأمزوكي"، مثلًا، يستغرق سهرة بكاملها.
كنا نقول له، لكي يتذكر مطلع القصة: أنت، يا أبو العبد، ذهبت ذات يوم إلى البقال "أبو حماد الأمزوكي"، وقلت له: يا عمي أبو حماد، أنا موظف، أقبض راتبي في آخر الشهر، فما رأيك أن أشتري من عندك، أنا وأسرتي، ما يلزم لنا، وأنت تسجل ثمن هذه المشتريات في الدفتر، وفي آخر الشهر أقبض راتبي، وأدفع لك مستحقاتك؟
فيقول أبو العبد: نعم، وأنا حينما عرضت على أبو حماد هذه الفكرة ابتهج، وشقرق، وقال لي، من منخاره: أهلًا وسهلًا ومرحبًا، الدكان وصاحب الدكان على حسابك. ثم راح يثني علي، قائلًا: أنت يا أبو العبد رجل لماح، بدليل أنك تركت كل دكاكين البلد، وجئت لعندي. لماذا؟ لأنك تجد عندي كل ما يخطر، وكل ما لا يخطر ببالك. إذا طلبت حليب السنونو، تلاقيه عندي!
في أول سردة، سخر أبو العبد من قول الأمزوكي إن في دكانه كل ما يخطر في البال، وبدأ يعدد لنا محتوياتها: نصف تنكة زيت، جرة دبس، سلة فيها بيض، طابة تمر، بلورات خاصة بلوكس الإضاءة، مكعبات زرقاء من أجل الغسيل، لعلها الدكان الأشد فقرًا على مستوى العالم. أما في السردات الأخيرة فقد ارتفع حديث أبو العبد لمستوى الإبداع العبقري، عندما التقط فكرة "حليب السنونو"، وراح يقلد الأمزوكي بصوته الذي يخرج من المنخار قائلًا: أنا عندي حليب سنونو، غير شكل.. نعم، أصحاب الدكاكين عندهم حليب سنونو، ولكنه بائت، وإذا أنت غليته لا بد أن يفرط. جارنا أبو سمعو، اشترى حليب سنونو من عند دكانجي غشاش، وكان يريد أن يصنع منه جبنة، ولكن الحليب فرط قبل أن يغليه. يا أخي، في ناس لا يخافون الله، يحلفون لك يمينًا معظمًا أن حليب السنونو طازج، مع أنه بائت.
ويسهب أبو حماد الأمزوكي في مديح صدقه مع الزبون، وأمانته، فيقول مخاطبًا أبو العبد: هل ترى السنونوات الواقفات على شريط الكهرباء؟ أنا أترك الخيار للزبون، يشير لي بإصبعه إلى السنونوة التي يختارها، وأنا أنزلها، وأحلبها في إنائه، وأمام عينيه!