الأربعاء, 27 أغسطس 2025 01:25 AM

السادية المصورة في سوريا: حين يتحول العنف إلى متعة وإذلال

السادية المصورة في سوريا: حين يتحول العنف إلى متعة وإذلال

في خضم النزاعات، "يمتزج التجريد من الإنسانية مع خطاب يشرعن العنف، محوّلاً مشاهد الإذلال أفعالاً بطولية في نظر منفذيها". خلال الأحداث التي شهدتها الساحل السوري والسويداء، انتشرت مقاطع مصورة كشفت عن سادية واضحة وتلذذ بإهانة الضحايا وإذلالهم. هذه المشاهد تركت أثراً عميقاً وأثارت تساؤلات جوهرية حول الأسباب التي تحول الفرد إلى شخص سادي يستمتع بإيذاء الآخرين، والهدف من تصوير هذه الأفعال ونشرها.

لفهم هذه الظاهرة، يجب التعمق في تعريف السادية وأسبابها. قد يربط البعض السادية بالسلوكيات الجنسية، لكن مفهومها أوسع بكثير، فهو يشمل المتعة في السيطرة على الآخرين والتلاعب بهم وإذلالهم وإيذائهم جسدياً أو نفسياً.

تقول المعالجة النفسية والاختصاصية الاجتماعية لانا قصقص في حديث إلى "النهار": "قد يتضخم هذا النمط السلوكي أو النفسي في البيئات القمعية أو ضمن الجماعات المسلحة، حيث يتماهى الأفراد مع هوية جماعية تتفوق على الحس الأخلاقي الفردي".

البعد النفسي: كيف يتحول الفرد منفذاً لأفعال سادية؟

تحدد قصقص بعض العوامل التي تساهم في ذلك:

  • بيئة تشرّع العنف: في المجتمعات القمعية، يعيش الفرد تحت سلطة صارمة، فيعتاد على العنف ويعتبره وسيلة مشروعة للسيطرة. ومع الوقت، يصبح هذا النمط جزءاً طبيعياً من حياته اليومية.
  • الحاجة إلى الانتماء: عندما يفقد الشخص هويته الفردية لمصلحة الهوية الجماعية، خصوصاً داخل جماعات مسلّحة أو إرهابية، تتفوّق قيم الجماعة على الحس الأخلاقي الفردي. في هذه الحالة، يتوقف الفرد عن التزام مبادئه الأخلاقية، ويصبح الانتماء للجماعة دافعاً كافياً لارتكاب أفعال سادية من دون شعور بالذنب.
  • العوامل النفسية: الضغوط والمشاعر السلبية التي يعيشها الفرد في بيئات العنف تدفعه إلى استخدام العنف لتفريغ التوتر والظلم المتراكم في حياته. مع مرور الوقت، يعتاد على ممارسة أفعال عنيفة صغيرة تتدرج إلى مستويات أعلى من اللا إنسانية، وصولًا إلى تحييد إحساسه بألم الآخرين.
تعبيرية (انترنت)
تعبيرية (انترنت)

التجريد من الإنسانية والعنف الاستعراضي

تشرح قصقص أن التجريد من الإنسانية هو مفتاح لفهم هذه الممارسات، إذ يُعامل الضحية ككائن أدنى، ما يبرر إذلاله أو قتله. وفي النزاعات، "يمتزج هذا التجريد مع خطاب يشرعن العنف، محوّلاً مشاهد الإذلال أفعالاً بطولية في نظر منفذيها. هذا الدمج بين الأيديولوجيا والمشهدية العنيفة يخلق دائرة مفرغة تعيد إنتاج الخوف، ويدفع الأفراد إلى ارتكاب أفعال سادية استباقية لتأكيد ولائهم أو لتفادي أن يصبحوا هم أنفسهم ضحايا".

وتقول: "يظهر العنف أحياناً كاستعراض للسيطرة، يهدف إلى ترهيب الآخرين وإعادة بناء شعور القوة لدى مرتكبيه، كما يعزز الولاء الجماعي ويرسل رسائل واضحة للمجتمع بأسره: كل من يعارض الجماعة سيواجه المصير نفسه. هذا العنف المصور لا يُعد مجرد انحراف سلوكي، بل بنية متكاملة من عنف رمزي ومادي يُشرّع ويُحتفى به، وهنا تكمن خطورته. جذوره ثقافية وسياسية ونفسية وبيئية، ولا يمكن مواجهته من دون دراسة شاملة لكل أبعادها لإعادة صوغ السرديات، إعادة تأهيل الأفراد، واستعادة كرامتهم التي فقدوها نتيجة التنكيل".

وإذا كان هذا النمط السادي يجد جذوره في عوامل نفسية واجتماعية، فإن الإعلام المعاصر يمنحه أجنحة للانتشار والتطبيع.

View this post on Instagram

البعد الإعلامي: كاميرات الإذلال في زمن البث الفوري

يرى الباحث في الإعلام والاتصال السياسي الدكتور علي أحمد، أن الإعلام اليوم، في عصر منصات التواصل الاجتماعي، أصبح ساحة مركزية لاستعراض مظاهر العنف السادي، خصوصاً في النزاعات المسلحة.

"شكل النزاع السوري نموذجاً لهذا النوع من الظواهر الإعلامية، بحيث انتشرت مشاهد الإذلال والتعذيب المصوّرة على نطاق واسع. الكاميرا في هذا السياق ليست مجرد أداة للتوثيق، بل تتحول سلاحاً رمزياً قوياً في يد الجهة المعتدية"، يوضح الدكتور أحمد، ويفنّد ذلك تالياً:

  • السيطرة من خلال التصوير: تصوير مشاهد التعذيب والإذلال يخلق علاقة واضحة للسيطرة بين المعتدي (المصوِّر) والضحية (المصوَّر). الكاميرا ليست مجرد أداة بريئة، بل وسيلة لفرض الهيمنة وتثبيت السلطة. فوجود العدسة وتصويبها نحو الضحية يعزز السيطرة النفسية، إذ تدرك الضحية أن الإذلال لن يقتصر على لحظة محددة، بل سيستمر ويتكرر عبر المشاهدة والنشر المستمر.
  • سلاح الخوف الجماعي: تتحول الكاميرا أداة لترويع الجمهور، إذ تنقل رسالة صريحة: هذا هو المصير الذي ينتظر المعارضين أو المدنيين الأبرياء.
  • الصورة بوصفها "وثيقة هيمنة": تعد الصور والفيديوهات المصوّرة وثائق بصرية لإثبات الهيمنة، تتجاوز القيمة الإعلامية لتصبح جزءاً من التاريخ البصري الذي يعكس سيطرة قوة معينة في حقبة زمنية محددة.
  • العنف كاستعراض دعائي: من منظور إعلامي وإعلاني، يصبح العنف المصور عرضاً دعائياً يهدف الى تثبيت سردية القوة والسلطة، إذ تقدّم الجهة المصورة نفسها قوة مسيطرة لا يمكن تحديها، مستغلة قدرة الكاميرا على نشر الرسالة بسرعة بين ملايين المستخدمين.

نجلس نحن نتفرج: بعضنا متأثر بعمق، وبعضنا لا مبالٍ على الإطلاق. هل سألت نفسك يوماً إن كنت شخصاً سادياً؟

دور الإعلام والتعليقات الإلكترونية في تطبيع هذه المشاهد

يشير الدكتور أحمد إلى أن منصات التواصل الاجتماعي تشكّل بيئة ملائمة لتطبيع هذه المشاهد:

  • التكرار والمشاهدة الكثيفة: يؤدي تكرار المشاهد إلى الاعتياد (Desensitization)، فتتراجع حساسية الجمهور إزاء العنف تدريجاً.
  • ديناميكية التعليقات الإلكترونية: التفاعل الجماهيري مع مشاهد العنف قد يؤدي إلى قبول ضمني لها، ويشجع على استمرار نشرها، إذ تمنح التعليقات المؤيدة للعنف شرعية اجتماعية غير مباشرة.
  • الاستقطاب الإعلامي وتبرير العنف: أحياناًً يستخدم الإعلام التقليدي أو الرقمي خطاباً يبرر الممارسات العنيفة أو يخفف من وطأتها عبر ربطها بالسياقات السياسية والاجتماعية، ما يزيد من خطر شرعنة السلوك الإذلالي.

البعد الاجتماعي: كيف تفاعل الناس خلف الشاشة مع هذه المشاهد؟

عمر: "في الفيديوهات يظهر عنف متعمّد ومقصود يرافق عمليات الإهانة، بدءاً من استخدام أوصاف تحطّ من الكرامة الإنسانية، أو إجبار الضحايا على تقليد أصوات الكلاب والخراف، وصولاً إلى حلق الشوارب. هذا الإمعان في الإذلال ليس عشوائياً، بل يهدف إلى محو الآخر ونزع إنسانيته ووضعه في مرتبة حيوانية، بما يبرر قتله وإبادته. في الفيديوهات القادمة من السويداء، تجولت الكاميرا في شوارع أعرفها وعشت فيها لسنوات، بما في ذلك المناطق القريبة من مدرستي الثانوية، وبلدتي التي تعرّضت بكاملها للتهجير، بما فيها منزل عائلتي".

غنى: "حاولت تجنّب مشاهدة الفيديوهات، لكن مع تفاقم الوضع لم يعد هناك مهرب. كان الأمر صعباً للغاية، وغالباً لم أكن أتمكن من متابعة الفيديو أو المقال حتى نهايته".

حلى: "لم أتحمّل كمّ الإذلال في تلك المقاطع، ولاسيما منها مشاهد حلق الشوارب. أعرف القيمة المعنوية للشارب لدى الموحدين، وأدرك أن الهدف كان إذلال فئة معينة. كانت المشاهد قاسية جداً، ورغم أنني لا أعرف الضحايا شخصياً، إلا أنني شعرت بالتعاطف معهم من منطلق إنساني. كيف يمكن لشخص أن يجد متعة في إيذاء إنسان آخر؟".

السادية الرمزية وإذلال الخصوصية الثقافية: الشارب عند الموحدين الدروز

ينفي الشيخ نضال سري الدين، عضو المجلس المذهبي للموحدين الدروز، أن تكون للشارب صفة دينية لدى الدروز، مؤكّداً أنه يحمل رمزية ثقافية واجتماعية. "الشارب عندنا تقليد عربي قديم يرمز إلى الرجولة والعز والشموخ والأناقة، وهو دليل على التزام القيم الدرزية، وأحياناً علامة يتعرّف بها أبناء الطائفة على بعضهم البعض. حلق الشارب يهدف إلى كسر هذه الرمزية الثقافية وإهانة العزة والشجاعة، ومع ذلك تبقى الكرامة ثابتة ولا تزول بزوال الشارب".

ويشير في هذا السياق إلى أن الشيخ مرهج شاهين "رجل دين يبلغ من العمر ثمانين عاماً، صاحب تاريخ في البطولة والوطنية، وبيته مفتوح مضافة للناس، وقد أقدم شاب في العشرين من عمره على حلق شاربه أمام أهله وأولاده بقصد الإهانة".

الشيخ مرهج (مواقع)
الشيخ مرهج (مواقع)

البعد القانوني والحقوقي: التصوير كأداة توثيق ومساءلة

تحدثت "النهار" مع المركز الدولي للحقوق والحريات، الذي أوضح كيف يمكن توظيف هذه المشاهد أداة استراتيجية للإثبات والمساءلة:

  • توثيق الحدث في لحظته وبيئته الأصلية: تحفظ الصور والفيديوهات الملتقطة فور وقوع الجريمة السياق الزمني والمكاني بدقة، خصوصاً إذا تضمنت بيانات تعريفية مثل وقت الالتقاط وإحداثيات الموقع.
  • ربط الجناة بالجريمة: قد تكشف المقاطع المصوّرة وجوه الجناة، شعارات على الزي العسكري، أو أرقام المركبات. ويساعد تسلسل المشاهد المحققين على تحديد المسؤوليات الفردية أو القيادية وربط الأوامر العسكرية بالتنفيذ الميداني، مع إمكان مطابقة المواد البصرية مع إفادات شهود آخرين.
  • تعزيز القضايا أمام المحاكم والآليات الدولية: في ظل غياب الوصول الميداني المباشر في كثير من مناطق سوريا، تمثل الأدلة البصرية حجر الأساس لملفات التحقيق أمام الآلية الدولية المحايدة والمستقلة، ولجان التحقيق الأممية، والمحاكم الأوروبية التي تطبّق الولاية القضائية العالمية. وعند حفظها وفق بروتوكولات الأدلة الجنائية الرقمية، مثل بروتوكول بركلي، تصبح هذه المواد أدلة دامغة يصعب الطعن فيها.
  • دعم التحقيقات التقنية المتقدمة: تتيح المواد البصرية استخراج تفاصيل دقيقة مثل نوع السلاح، زاوية الإطلاق، أو حتى اللهجة المستخدمة في الحوار. وتشمل تقنيات التحقق المتقدمة المطابقة الجغرافية، أي مقارنة المعالم الظاهرة مع صور الأقمار الصناعية، والتحقق الزمني من خلال تحليل الظلال والطقس وحركة الشمس لتحديد توقيت الحدث بدقة.

مسرحية يموت فيها الأبطال

الآن تبدأ المسرحية. أطفئوا هواتفكم، ولا تلتقطوا أي صور. عند اليمين، تقف الأم بجانب جثة ابنها، جسده في حالة يُرثى لها، وتهمس بحسرة: "ابني… ما عاد عندي داني". ثم تسرع إلى جثة أخرى بجانبه: "ما عاد عندي نيفين… تقبريها لامك. حياتي سواد بلاكي". في شمال المسرح، يبكي أخ أخته التي لم يتعرف عليها إلا من السوار الذي كان بيدها. وفوق المسرح، يظهر طيف أبو أنس وابنه، اللذان رفضا الركوع "الحرفي" وقُتلا صباح الأربعاء 16 تموز/يوليو. (لا يُذكر التاريخ هنا لتوثيق فعل القتل بل فعل الكرامة). وسط المسرح، نجلس نحن نتفرج: بعضنا متأثر بعمق، وبعضنا لا مبالي على الإطلاق.

عود على بدء… هل سألت نفسك يوماً إن كنت شخصاً سادياً؟ هل يمكن لنا أن نعرف من نحن حقاً إلا حين نمتلك الحرية والقدرة على القيام بما نشاء؟ وفي تلك اللحظة، هل سنختار الخير أم الشر؟

اخبار سورية الوطن 2_وكالات _النهار اللبنانية

مشاركة المقال: