تكثف إيران جهودها في سوريا لتطوير شبكة تهريب معقدة، بهدف إيصال الأموال إلى ميليشيات "حزب الله" اللبناني، في ظل الضغوط الداخلية والإقليمية والدولية التي تواجهه وتدفع باتجاه نزع سلاحه. هذه التحركات، وإن لم تكن جديدة من حيث المبدأ، إلا أنها تكشف عن إصرار إيراني على إيجاد قنوات بديلة لتمويل حليفها الأبرز في لبنان، عبر استغلال هشاشة المشهد السوري وتداخل المصالح على أراضيه.
رسالة إيرانية إلى بغداد
كشف مصدر سياسي عراقي بارز لصحيفة "الشرق الأوسط" أن مسؤولاً رفيعاً في بلاده تلقى أواخر آب/أغسطس رسالة من طهران، تضمنت طلباً بتسهيلات "غير عادية" في أحد المعابر الرسمية لنقل شحنات مالية إلى سوريا، ومنها إلى حزب الله. وبحسب المصدر، فإن الطلب قوبل بالرفض "بسبب تعقيدات أمنية وسياسية"، لكنه أوضح أن الإيرانيين لم يتوقفوا عند هذا الرفض، بل أبدوا ثقة بامتلاكهم شبكات تهريب داخل سوريا قادرة على إيصال الشحنات حتى العاصمة دمشق. هذه الثقة تعكس مدى تغلغل إيران في البنية السورية، واعتمادها على أطراف متعددة في عمليات التهريب، بدءاً من فلول النظام السابق، مروراً بعناصر من تنظيم "داعش"، وصولاً إلى جماعات محلية تملك خبرة طويلة في شبكات التهريب. كما لم تستبعد مصادر أخرى أن تكون طهران قد طورت اتصالاتها مع مجموعات متضررة من التحولات التي شهدتها سوريا خلال السنوات الماضية، مستغلة الحاجة والفقر والفراغ الأمني في بعض المناطق.
أدوات قديمة ومخططات جديدة
يؤكد المحلل السياسي حسام نجار في حديث لمنصة سوريا 24 أن سلوك إيران في سوريا ليس وليد اللحظة، بل امتداد لنهج قديم اعتمدته منذ عقود عبر نظام الأسد. ويقول: "لم ولن تتوقف إيران عن العبث بالأرض السورية واستخدامها كأنها ملك خاص بها. حفرت الأنفاق، وابتكرت طرقاً متعددة لتمرير مخططاتها، سواء لزعزعة الاستقرار السوري، أو لدعم الفلول وقسد وحزب الله". ويضيف نجار أن التجارب السابقة أثبتت تنوع أساليب طهران، فهي حاولت مثلاً تهريب المخدرات إلى الأردن عبر أنفاق أقامتها بتسهيل من النظام السابق، قبل أن يتم كشفها، كما لجأت إلى حفر أنفاق في الشرق السوري لتمرير السلاح والأموال إلى مجموعات مسلحة عابرة للحدود. لكن النجار يشير إلى أن الواقع اليوم مختلف: "لم تتوقع إيران أن تواجه قوى عسكرية تتابع تحركاتها بدءاً من الحدود العراقية وصولاً إلى لبنان مروراً بالأراضي السورية، فضلاً عن رغبة دولية جادة في الحد من نفوذها، وهذه المتغيرات ضيقت كثيراً على تحركاتها وأموالها". ويرى أن الهدف المباشر لإيران هو إعادة إحياء الشارع اللبناني الموالي لحزب الله، خاصة بعد التصريحات الأخيرة لرئيس الحكومة اللبنانية التي شددت على ضرورة سحب سلاح الحزب. وبرأيه، قد تتمكن طهران من تمرير كميات محدودة من الأموال والأسلحة، لكنها لن تستطيع التحرك بحرية كما في السابق.
استراتيجية بعيدة المدى
إيران، بحسب النجار، لا تتحرك بردود فعل آنية، بل تعتمد على استراتيجية طويلة المدى شبيهة بتجربتها في سوريا واليمن. فهي تدخل مستفيدة من الجهل والفقر، لتستقطب ولاء مجموعات محلية، لا انطلاقاً من دوافع عقائدية بحتة، بل بهدف تحويلها إلى أدوات قابلة للاستخدام. "لكن ما يغيب عن حساباتها أن الوعي الثوري والاجتماعي للسوريين ارتفع بشكل كبير، وبات يدرك أن خطرها يتجاوز كل الأخطار الأخرى"، على حد قوله. ويضيف أن طهران ستسعى مستقبلاً إلى تغذية جيوب جديدة داخل سوريا، وإمداد فلولها وأعوانها بأسباب الاستمرار، بانتظار اللحظة التي تعتقد أنها مناسبة للانقضاض على الدولة أو إعادة خلط الأوراق في المنطقة.
جسر التهريب الممتد من الأحواز إلى لبنان
من جهته، يرى الناشط الأحوازي طاهر الأحوازي أن البنية الجغرافية والسياسية القائمة تسهل لطهران تنفيذ جزء من مخططاتها، مستفيدة مما يسميه "الجسر الممتد" من الأحواز العربية المحتلة، مروراً بالعراق، وصولاً إلى سوريا ولبنان. ويقول الأحوازي في حديث لمنصة سوريا 24: "إن بقايا فلول الميليشيات المنتشرة على الأراضي السورية واللبنانية توفر لطهران بيئة خصبة لإبقاء الفوضى قائمة، ما يمنحها قدرة على تمرير المعدات والأموال إلى حزب الله". لكنه في المقابل يرى أن الحل الجذري يبدأ من ضبط الحدود العراقية – السورية، معتبراً أن العراق "مباح بالكامل لإيران" وهو ما يجعل أي إجراءات على الأرض السورية وحدها غير كافية.
رهانات إيران ومحدودية الفرص
رغم هذا الواقع، يبقى نجاح إيران في تمرير خططها موضع شك. فالعراق نفسه يواجه ضغوطاً أميركية وإقليمية للحد من نفوذ طهران، والحدود العراقية – السورية باتت أكثر خضوعاً لمراقبة دولية. كما أن البيئة السورية لم تعد كما كانت في السنوات الأولى للحرب؛ فالمجتمع المحلي أضحى أكثر وعياً بخطورة المشروع الإيراني، والقوى الدولية تنظر إلى أي تمدد إيراني جديد على أنه تهديد مباشر للاستقرار الإقليمي. غير أن إيران تراهن على قدرتها على الصبر والاختراق التدريجي، فالتاريخ يشهد أنها تتعامل مع ملفات النفوذ بعقلية طويلة الأمد، مستندة إلى مبدأ "النفس الطويل"، حيث تكفيها كميات محدودة من التهريب لإبقاء حزب الله قادراً على الصمود، حتى وإن تعذر عليه التوسع أو فرض معادلات جديدة في لبنان.
منذ التحرير: إحباط عدة عمليات تهريب صوب لبنان
يشار إلى أن وزارة الداخلية السورية تمكنت، وعقب سقوط نظام الاسد السابق، من إحباط عدد من عمليات تهريب الأسلحة من سوريا باتجاه لبنان. وخلال الأشهر الماضية، أكدت مصادر أمنية لمنصة سوريا 24 أن قوى الأمن تصدت لعمليات تهريب أسلحة سواء من حمص باتجاه الحدود السورية اللبنانية، أو حتى شحنات أسلحة قادمة من الساحل السوري باتجاه لبنان، مشيرة إلى ضلوع الميليشيات وفلول النظام في هذه العمليات.
مستقبل مفتوح على الاحتمالات
في المحصلة، يمكن القول أن إيران تتحرك اليوم في مساحة أضيق مما كانت عليه قبل سنوات، لكنها لم تفقد القدرة على المناورة، وبالتالي فإن شبكات التهريب في سوريا قد تمنحها قنوات بديلة لإيصال الأموال، لكنها في الوقت نفسه تضعها تحت مجهر القوى الدولية والإقليمية. المعادلة تبدو واضحة: إيران تحتاج إلى حزب الله بقدر ما يحتاج الحزب إليها، وبالتالي ستبقى محاولات التهريب قائمة، ولو على نطاق محدود، في ظل معركة إقليمية مفتوحة على الاحتمالات، عنوانها الأكبر: من يملك القدرة على التحكم بالحدود والموارد العابرة لها.