مع استكمال الترتيبات النظرية، بدأت سوريا المرحلة العملية لأول انتخابات برلمانية انتقالية، تهدف إلى اختيار أعضاء مجلس قد يشهد تغييرًا في اسمه قريبًا. تجري هذه الانتخابات وفقًا لنظام جديد أثار جدلاً واسعًا حول توزيع الدوائر وتمثيل المناطق، وما إذا كانت هذه التعديلات ستؤدي إلى تجديد حقيقي أم مجرد تكرار للوضع السابق.
باشرت اللجان الفرعية عملها اليوم الأحد بعد أدائها القسم الأسبوع الماضي، وذلك عقب يومين من التدريب على العملية الانتخابية. تتضمن مهامها تشكيل الهيئات الناخبة من خلال مشاورات مكثفة في مناطقها، ورفع الأسماء إلى اللجنة العليا التي تقر القائمة الأولية، ثم فتح باب الطعون، كما حدث مع بعض اللجان التي تم استبدال عدد من أعضائها في عدة محافظات. بعد إقرار الهيئات، تتولى اللجان إدارة العملية بشكل عملي، بدءًا من الإشراف على مراكز الاقتراع وتنظيم التصويت، وصولًا إلى فرز الأصوات وإعلان النتائج، مما يجعلها عنصرًا أساسيًا في سير الانتخابات.
تأتي هذه الانتخابات بعد سلسلة من المراسيم، حيث أنشأ المرسوم 66 اللجنة العليا للانتخابات، ورفع المرسوم 143 عدد المقاعد إلى 210 وأقر نظامًا مؤقتًا يتم بموجبه انتخاب ثلثي الأعضاء عبر هيئات ناخبة محلية، بينما يعين الرئيس الثلث المتبقي. هذا النظام، الذي يعتبر الأول من نوعه منذ سبعينيات القرن الماضي، يبتعد عن الاقتراع المباشر ويثير تساؤلات حول ما إذا كان الهدف منه هو إعادة توزيع النفوذ، أو احتواء قوى محلية صاعدة، أو إعادة رسم المشهد السياسي.
تهدف الإجراءات المصاحبة إلى إظهار قطيعة مع الماضي، من خلال لجان فرعية في المحافظات، ولجان طعون قضائية بقرارات نهائية، ونسبة إلزامية لتمثيل النساء لا تقل عن 20%، ومنصة إلكترونية لمتابعة العملية وتقديم الاعتراضات. ومع ذلك، تثير هذه الضمانات تساؤلات حول ما إذا كانت ستتجاوز الشكل نحو جوهر ديمقراطي حقيقي.
بعد تحديد من يحق لهم التصويت، يصبح شكل الدوائر وعدد المقاعد المخصصة لكل منها هو العامل الحاسم في تحديد ملامح المجلس المقبل.
يحدد شكل توزيع الدوائر الانتخابية طبيعة التمثيل المحلي ويؤثر على فرص تشكيل كتل سياسية مؤثرة. كما يثير توزيع المقاعد بين المحافظات تساؤلات حول العدالة والتوازن في تمثيل المناطق المختلفة. هذا التوزيع يعكس توجهات السلطة في رسم خريطة النفوذ داخل المجلس المقبل، ويشكل مدخلاً أساسيًا لفهم الجدل الذي أثارته خريطة الدوائر لاحقًا.
أثارت خريطة الدوائر جدلاً واسعًا، حيث بقيت دمشق، ذات العشرة مقاعد، دائرة واحدة متماسكة، بينما قسمت محافظات أصغر مثل إدلب وحماة وريف دمشق إلى دوائر متعددة. يعزو التفسير الرسمي ذلك إلى الكثافة السكانية، لكن القراءة السياسية ترى أن إبقاء العاصمة موحدة يسهل التحكم في نتائجها، بينما يؤدي تقسيم المحافظات الأخرى إلى تفتيت الصوت المحلي ومنع تشكل كتل مؤثرة. ففي إدلب مثلاً، أدى تقسيمها إلى أكثر من دائرة إلى تشتت الكتل المحلية، مما قلل من فرص فوز مرشحين ذوي قاعدة واسعة، مما يجعل التقسيم أقرب إلى هندسة انتخابية مفصلة على المقاس، وليس إجراء ديموغرافيًا محايدًا.
يحتفظ الرئيس بثلث المقاعد تحت مسمى الكفاءات، وهي خطوة تهدف إلى ضمان التنوع وسد الثغرات، وتشكل عمليًا كتلة ضامنة للرئيس، قادرة على ترجيح أو تعطيل القرارات. وبهذا، يتقاطع تأثير "الكفاءات" المعينة مع هندسة الدوائر في تشكيل تركيبة المجلس بما يضمن بقاء ميزان القوى في يد السلطة.
يثير هذا التداخل بين "الكفاءات" المعينة والتقسيمات الانتخابية تساؤلاً أوسع بشأن طبيعة المجلس المقبل: هل سيكون ساحة لتوازنات جديدة أم مجرد امتداد للسلطة التنفيذية؟
أضاف تأجيل الانتخابات في الرقة والحسكة والسويداء طبقة جديدة من الجدل. عزت الحكومة القرار إلى غياب الظروف الأمنية الملائمة، مؤكدة أن المقاعد ستبقى محفوظة. لكن معارضين اعتبروه إقصاءً سياسيًا، فيما رأى آخرون أنه اعتراف ضمني بعجز السلطة عن فرض السيطرة، أو محاولة لتجنب صدام في مناطق حساسة. هذا التأجيل يعني عمليًا أن المجلس المقبل سيبدأ عمله بتمثيل ناقص لثلاث محافظات، مما قد ينعكس على شرعيته في نظر جزء من الشارع. هل يكون التأجيل حماية لتوازن هش؟ أم تمهيدًا لتكريس انقسام دائم؟
مع هذه التحديات التي تقلص التمثيل الجغرافي، يزداد المشهد تعقيدًا على المستوى السياسي الداخلي، حيث يبرز غياب الأحزاب بعد حلها رسميًا، مما يجعل المنافسة محصورة في أفراد مستقلين وقد تغلق الطريق أمام تشكيل معارضة منظمة داخل المجلس، وتعزز مركزية القرار. أما الرقابة الدولية، فأعلنت دمشق عن تلقي طلبات من منظمات لم تكشف أسماءها أو مهامها.
جاءت ردود الفعل منقسمة بحدة. شخصيات موالية اعتبرت الخطوة بداية لتجديد الحياة السياسية، بينما رآها معارضون محاولة لتجميل صورة النظام. وصفت الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا التأجيل بأنه "إقصاء سياسي مكشوف"، وحذر المجلس السياسي لوسط وغرب سوريا من إعادة إنتاج حكم اللون الواحد، أما المجلس الإسلامي العلوي الأعلى فدعا إلى المقاطعة الكاملة واعتبر العملية "مجلس تعيين". يعكس هذا التلاقي بين قوى متباينة الهوية أزمة ثقة بنيوية مع السلطة المركزية.
في النهاية، يتقابل تياران: الأول يرى في ما يجري تعيينًا مباشرًا أو غير مباشر لا يرقى إلى انتخابات، والثاني يعتبره آلية اضطرارية لمرحلة انتقالية تهدف إلى ترميم المؤسسات وضمان حد أدنى من التمثيل. لكن خلف هذا الانقسام، يظل السؤال الأعمق: هل تغير القوانين والآليات ملامح السلطة، أم أن السلطة هي التي تعيد تشكيل القوانين والآليات على صورتها؟ وبينما تبدأ اللجان الفرعية أولى خطواتها الميدانية، ويطرح تغيير اسم المجلس على الطاولة، يبقى مصير هذه التجربة مرهونًا بقدرتها على كسر إرث الماضي لا إعادة إنتاجه.
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار