نشرت وكالة "رويترز" تفاصيل تحقيق موسع يوثق عملية سرية جرت بأوامر من القصر الرئاسي في النظام السوري السابق، لنقل آلاف الجثث من مقبرة جماعية قرب بلدة القطيفة بريف دمشق إلى موقع جديد في صحراء الضمير، وذلك بين عامي 2019 و2021.
التحقيق، الذي استند إلى شهادات مباشرة وصور أقمار صناعية وتحليل جنائي للتربة، كشف أن العملية أُطلق عليها اسم "نقل الأرض"، وقادها العقيد مازن إسمندر، المعروف بين المقربين من النظام باسم "سيد التطهير". وكانت "رويترز" قد نشرت تفاصيل أولية من التحقيق في 15 تشرين الأول، قبل أن تنشر اليوم كامل التفاصيل.
الفكرة بدأت من كمال الحسن
جمعت "رويترز" شهادات من 13 شخصًا، بينهم عسكريون وسائقون وميكانيكيون شاركوا في العملية، أفادوا بأن أوامر نقل الجثث صدرت بشكل شفهي من القصر الرئاسي في دمشق. ونقلت "رويترز" عن ضابط سابق في "الحرس الجمهوري" أن بشار الأسد وافق شخصيًا على خطة "نقل الأرض" خلال اجتماع في القصر عام 2018، حضره أربعة من كبار ضباط الجيش والاستخبارات، بينهم رئيس شعبة المخابرات العسكرية آنذاك كمال الحسن، الذي طرح فكرة نقل المقابر لإخفاء الأدلة على "الانتهاكات الواسعة".
العملية كانت بإشراف مباشر من العقيد مازن إسمندر، الذي عمل لأعوام في إدارة الخدمات الطبية للجيش السوري، وتحت قيادة اللواء عمار سليمان، أحد المقربين من بشار الأسد. هرب كمال الحسن بعد سقوط النظام السوري السابق في كانون الأول 2024 إلى روسيا. وهو خليفة كفاح الملحم في رئاسة شعبة المخابرات العسكرية، وهو الراعي الرسمي لعصابات شجاع العلي، المختصة بالخطف وطلب الفدية والابتزاز. أدرجته الولايات المتحدة على قائمة المعاقبين بقانون "قيصر" بعد أن خرجت أغلب الصور من الفرع الذي كان يقوده، وهو "الفرع 227" التابع لـ"المخابرات العسكرية".
من القطيفة إلى الضمير
المقبرة الأولى، الواقعة في القطيفة شمال دمشق، كانت تضم خنادق مليئة برفات معتقلين وسجناء وضحايا معارك منذ بدايات الحرب. وتظهر صور الأقمار الصناعية التي حللتها "رويترز" أن الخنادق الأولى بدأت بالظهور عام 2012، وتوسعت حتى بلغ عددها 16 خندقًا، بطول إجمالي يتجاوز 1.2 كيلومتر. ومع انكشاف موقع المقبرة، بدأت عملية نقلها في مطلع عام 2019 إلى صحراء الضمير.
في البداية، كانت الجثث تأتي بالعشرات في المرة الواحدة من مستشفيين قريبين. وقال مدير المجلس المحلي في القطيفة، أنور حاج خليل، إنها كانت في أكفان مكتوب عليها الأسماء. لكنه أضاف أنه في غضون بضعة أشهر، اعتاد المكالمات الواردة من إسمندر بعد منتصف الليل للتخلص من الجثث القادمة من مستشفى "تشرين" العسكري خارج دمشق. وكان ضابط آخر يتصل به للتخلص من الجثث القادمة من سجن "صيدنايا" سيئ السمعة. وقال حاج خليل، إن إسمندر كان يقول له "البرادات طالعة باتجاهك، خلي سواق الجرافة يلاقينا بالموقع بعد نص ساعة".
ووفقًا لسائق جرافة عمل في القطيفة ابتداء من عام 2014، كانت جميع جثث "تشرين" و"صيدنايا" معصوبة العينين، بينما الأيدي كانت مربوطة بشرائط بلاستيكية في بادئ الأمر. وقال إن القادمين من "تشرين" كانوا يصلون في البداية في أكياس جثث، ثم في أكياس من النايلون، ثم كانوا يصلون بلا أي أكياس على الإطلاق. وقال السائق إن جميع القتلى تقريبًا كانوا عراة.
على مدار عامين، كانت ست إلى ثماني شاحنات تتحرك أربعة أيام أسبوعيًا بين القطيفة والضمير، محمّلة بالتراب والجثث والعظام المتحللة، بإشراف مباشر من إسمندر. انتهت العملية في نيسان 2021 بعد أن جرى إنشاء 34 خندقًا جديدًا في الموقع الصحراوي قرب بلدة الضمير، بمساحة تعادل 16 ملعب كرة قدم (مساحة ملعب كرة القدم 7140 مترًا مربعًا)
رائحة الموت
يصف الشهود، وبينهم سائقا شاحنتين، وثلاثة ميكانيكيين، وسائق جرافة، الرائحة التي علقت بملابسهم وشعرهم خلال تلك الليالي، بأنها "رائحة الموت". قال أحد السائقين، "كان إسمندر يقف خلفنا يراقب كل شاحنة في أثناء تفريغ حمولتها. لم نكن نسمح لأنفسنا بالنزول من الكبينة". وكانت التعليمات للسائقين بمنع استعمال الهواتف المحمولة، أو ترك السيارات في أثناء تحميل الجثث، ومخالفة التعليمات تعني الموت.
وقال ضابط سابق في "الحرس الجمهوري" الذي أشرف على العمل مباشرة، "كانت عظام وجماجم شبه متحللة"، فيما كان بعضها جثثًا جديدة. وأضاف، "كان هناك أيضًا الكثير من الديدان التي كان يسقط منها المئات إن لم يكن الآلاف مع كل مرة تفرغ فيه الجرافة حمولتها في الشاحنة". وبعد ذلك، بناء على أوامر إسمندر، كانت السيارات تصطف وتتجه نحو الضمير، وكانت ست إلى ثماني شاحنات "مرسيدس" برتقالية باهتة اللون تتبع سيارة العقيد.
استمرت العملية بشكل متواصل بوتيرة أربعة أيام في الأسبوع، من شباط 2019 حتى نيسان 2021، باستثناء العطلات، وأيام سقوط الثلوج، وفترة الحظر بسبب جائحة "كوفيد-19" التي استمرت في سوريا حوالي أربعة أشهر. وكانت الطرق المحلية تغلق عندما تتجه الشاحنات نحو موقع الدفن. وقال ضابط في "الفرقة الثالثة" لـ"رويترز"، إنه كان يرافق الشاحنات في عام 2014، وتعطلت شاحنة على الطريق السريع وتوقف جميع من كانوا في القافلة المتجهة إلى القطيفة. وذكر الضابط أنه تلقى اتصالًا غاضبًا من اللواء عمار سليمان قال فيه، "إجتنا الأوامر من الرئيس: سكروا الطريق الدولي".
وأكد الميكانيكي أحمد غزال، لـ"رويترز"، أنه رأى الجثث لأول مرة حين طُلب منه إصلاح إحدى الشاحنات المعطلة قرب المقبرة، مضيفًا، "سقطت يد بشرية متحللة على أحد عماله". وغلب الفضول الميكانيكي، فاقترب من أحد السائقين العسكريين الذي أخبره أن هذه الجثث من القطيفة، وأن الأوامر صدرت لنقلها قبل أن تتمكن سوريا من فتح أبوابها أمام التدقيق الدولي. وأضاف غزال، الذي رافق فريق "رويترز" إلى الموقع السري لاحقًا، أن "الحديث عن العملية كان يعني الموت، لذلك كتم الجميع أنفاسهم".
عشرات الآلاف من الجثث وإخفاء للأدلة
توضح صور الأقمار الصناعية التي فحصتها "رويترز" أن سلطات الرئيس المخلوع بشار الأسد أقامت جدارًا أسمنتيًا بارتفاع ثلاثة أمتار حول مقبرة القطيفة أواخر عام 2018، قبل أن تبدأ بعملية النقل. كما أُعيد ردم الخنادق وتسوية الأرض بالكامل بنهاية عام 2021، في محاولة لطمس أي أثر للموقع القديم. وأُنشئ في صحراء الضمير موقع بديل داخل قاعدة عسكرية محصنة ومحاطة بسواتر ترابية.
وكشف التحقيق من خلال تحليل تربة الموقع الجديد بمساعدة خبراء في الجيولوجيا الجنائية، أن لون التربة الحمراء الداكنة في الضمير يتطابق مع تربة القطيفة، ما يشير إلى خلطها في أثناء عملية النقل. بناء على وتيرة عمليات الدفن على مدى تلك السنوات في مقبرة القطيفة، يقدّر رئيس المجلس المحلي السابق في القطيفة، أنور حاج خليل، أن المقبرة القديمة ضمت ما بين 60 إلى 80 ألف جثة قبل إفراغها.
ويُرجّح خبراء استندت إليهم "رويترز" أن عدد الجثث المدفونة في الموقع الجديد بصحراء الضمير قد يبلغ عشرات الآلاف، بناء على حجم الخنادق، وعدد رحلات الشاحنات خلال عامين من العمل المستمر. ورصد فريق تحقيق "رويترز" عظامًا بشرية متناثرة على سطح المقبرة في الضمير، بينها جزء من جمجمة بشرية وجزء يعتقد الخبراء أنه من ساق إنسان.
تورط رسمي وتسلسل قيادي موثق
استند التحقيق إلى عشرات الوثائق الرسمية من أرشيف الطب الشرعي العسكري السوري، تحمل ختم العقيد مازن إسمندر، وتُظهر التسلسل القيادي من السجون إلى المستشفيات العسكرية ثم إلى المقابر. بعض هذه الوثائق وُجد في مكتب للشرطة العسكرية تُرك مهجورًا بعد سقوط النظام السوري السابق وسيطرة قوات "ردع العدوان" على دمشق في كانون الأول 2024.
ورغم ذلك، لم يُعثر على أي وثيقة موقعة باسم بشار الأسد نفسه. وقال قائد سابق في ميليشيا "الدفاع الوطني" لـ"رويترز"، "لن تجدوا توقيع الأسد على شيء. كان يعلم أن الحساب قادم، لذلك أراد أن تبقى يداه نظيفتين". وظهر اسم إسمندر 73 مرة بين آلاف الوثائق التي تعود لعامي 2018 و2019 التي عثرت عليها "رويترز" وصورتها خلال زيارة لمكتب "الأدلة الجنائية العسكرية" بعد أن غادرته قوات الأسد المخلوع في كانون الأول.
وظهر ختمه على وثائق من عامي 2018 و2019 عن كيفية نقل السجناء أولًا إلى مستشفى "تشرين" العسكري، ثم بعد الوفاة إلى مستشفى "حرستا" العسكري لحفظ الجثث. ولا تشير الوثائق إلى وجود مقابر جماعية.
تجريف مقبرة القطيفة
زار فريق من "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا" موقع المقبرة الجماعية في مدينة القطيفة بريف دمشق، في إطار الكشف عن مصير المفقودين في سوريا. وذكرت الرابطة، في 19 كانون الأول 2024، أن فريقها التقى بعدد من سكان المنطقة الذين أكدوا قيام النظام السوري المخلوع، بالتعاون مع روسيا، بتجريف المقبرة الجماعية في القطيفة خلال الفترة بين عامي 2018 و2020، وهو ما يؤكد المعلومات السابقة التي نشرتها الرابطة عن عمليات التجريف التي حصلت.
وأشارت الرابطة إلى أن تجريف المقبرة يهدف إلى طمس معالم الجرائم التي ارتكبها النظام السوري المخلوع، وإخفاء أدلة مهمة على انتهاكاته الجسيمة لحقوق الإنسان. وأفاد الشهود أن الموقع حُوّل إلى قاعدة رادار عسكرية، ما يثير مخاوف جدية بشأن مصير رفات آلاف الضحايا الذين دُفنوا في تلك المقبرة.
وأكدت الرابطة أن الأرقام المتداولة في وسائل الإعلام حول وجود 100 ألف ضحية مدفونة في مقبرة القطيفة غير دقيقة، ولا يمكن التثبت من صحتها في ظل غياب أي تحقيقات مستقلة وشفافة. وطالبت المجتمع الدولي والسلطات الحالية بحماية مواقع المقابر الجماعية، وعدم السماح بالعبث بها وإطلاق تحقيق دولي مستقل في مواقع المقابر الجماعية بالتعاون مع المؤسسات المحلية المعنية وأهالي الضحايا.
كما ناشدت السوريين ووسائل الإعلام، بعدم العبث أو الاقتراب من موقع مقبرة القطيفة، أو أي من المقابر الجماعية، حتى وصول فرق دولية متخصصة تمتلك الخبرات والقدرات اللازمة للتعامل مع مثل تلك المواقع من أجل حفظها، ومساعدة أهالي المختفين قسرًا والمفقودين في سوريا على استرجاع رفات أبنائهم.
كانت الرابطة نشرت، في 30 كانون الثاني 2024، معلومات عن قيام النظام المخلوع بتجريف المقبرة الجماعية في مدينة القطيفة والتي كانت تقع قرب مركز قيادة الفرقة الثالثة في جيش النظام المخلوع، وفقًا لصور أقمار صناعية حصلت عليها الرابطة وقامت بتحليلها.