عنب بلدي – محمد ديب
في حلب، المدينة التي سبقت الأغنية الكلام، حيث شكلت القدود والموشحات جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية لسنوات، حتى لُقبت بمدينة الطرب، يتردد صدى أصوات نسائية مميزة. فنانون كبار مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب أشادوا بجمهور حلب الذواق للفن الرفيع المتوارث عبر الأجيال، حيث تُدرس المقامات حتى في الزوايا.
وراء المشهد الغنائي الرجالي البارز، الذي يضم أسماء مثل صبري مدلل وصباح فخري وأديب الدايخ ومحمد خيري، ومن قبلهم عمر البطش والشيخ بكري الكردي، تقف نساء لا يقللن موهبة، لكن أصواتهن ظلت حبيسة التقاليد. لم تُتح للنساء سوى مساحة ضئيلة من الضوء، حيث يختبئ الغناء خلف الجدران، بعيدًا عن المسارح التي احتكرها الرجال طويلًا. ومع ذلك، استمرت بعض النساء في ترديد الموشحات في المنازل، وكأنهن يحمين إرثًا من الضياع، متمسكات بنغمة لا يرغبن في انطفائها.
نجحت بعض الفنانات الحلبيات في تجاوز حدود المدينة نحو العالم العربي، مثل ربا الجمال وميادة الحناوي وميادة بسيليس، لكن طريقهن لم يكن مفروشًا بالورود، إذ واجهن في البداية حواجز اجتماعية، قبل أن يجدن في القاهرة وبيروت فضاءً أرحب للصعود إلى المسرح. في المقابل، لا تزال أخريات يسعين إلى كسر العزلة من خلال برامج المواهب أو إنتاج أعمال مستقلة، أو الغناء في الأوساط المحلية، مثل سحر وصباح بريج وبتول البني وغيرهن، ممن أثبتن جدارة وحضورًا لافتًا.
اختارت العديد من الفنانات الانسحاب أو الاكتفاء بالغناء في الدوائر الخاصة، لكن حلب لم تخلُ يومًا من صوت نسائي متميز.
"الخوجة" في الأجواء المغلقة
في البيوت الحلبية التي تفوح منها رائحة الأصالة، لا يزال صوت عتيق يتردد في الأرجاء. هناك، في الجلسات النسائية المغلقة المعروفة باسم "الخوجة"، تُستعاد الموشحات القديمة ويُستحضر معها ماضي المدينة. "الخوجة" ليست مجرد مغنية عادية، بل هي حافظة للأغاني التي لم تصل إلى المسارح. امرأة تتقن مفاتيح المقام وأسرار النغمة، وتؤدي القدود في المناسبات الخاصة، محولة الغناء إلى طقس من الألفة، تتقاطع فيه الذاكرة مع الفرح.
تقول صباح بريج، وهي من النساء اللواتي ما زلن يُعرفن بهذا اللقب، إن الجلسات التي تحييها "ليست حفلات ترفيهية بقدر ما هي استعادة لذاكرة المدينة داخل البيوت". تجلس النساء حولها في دوائر صغيرة، يغنين معها مقاطع من "قدك الميّاس" و"يا مال الشام" وموشحات "لما بدا يتثنّى"، بينما تتردد الأصوات في الغرفة كأنها دعاء قديم.
وتضيف بريج، لعنب بلدي، "الناس يلجؤون إلى (الخوجة) في مناسبات كثيرة، من حفلات النجاح والخطوبة إلى اللقاءات الصباحية، بحثًا عن لمسة تعيد الدفء إلى هذه اللحظات". في تلك الجلسات، تشعر النساء بحرية نادرة، لا تصفيق رسمي ولا أضواء، بل غناء يخرج من القلب ليصل إلى القلب. من داخل البيوت، تعيد "الخوجة" للحياة نغمتها الأولى، وتحافظ على الفن الحلبي كطقس يومي لا يحتاج إلى مسرح كي يزدهر.
على المسرح.. محاولة للخروج من الظل
أصوات أخرى قررت الخروج من الدوائر المغلقة، من بينهن بتول بني، التي اختارت أن تغني الموشحات على المسارح، وأن تمنح التراث وجهًا أنثويًا جديدًا. تقول بتول، لعنب بلدي، "المرأة في حلب ما زالت تواجه نقصًا في المساحات التي تتيح لها الظهور الفني. وكثيرات يغنين في الخفاء، وبعضهن يضطررن إلى تقديم أعمالهن خارج المدينة، لكن الطموح لا ينطفئ".
في حفلاتها، تعيد بتول إحياء الموشحات بأسلوب يوازن بين الأصالة والحداثة، وترى أن الصوت النسائي قادر على أن يمنحها بعدًا وجدانيًا مختلفًا. تستشهد بأغنية "إمتى الهوى"، التي غناها صباح فخري وسعاد محمد وأم كلثوم، لتقول إن "الأغنية تزداد جمالًا بتنوع الإحساس، وليس بتكرار الصوت". ورغم الانتقادات التي طالتها بسبب حجابها، تصرّ على أن "الفن أكبر من الشكل، وأن الجوهر في الصوت والإحساس". بالنسبة لها، كل امرأة تقف على المسرح لتغني الموشحات، تفتح بابًا جديدًا للأخريات كي يرين أنفسهن في هذا التراث.
حين تتكلم المدينة بصوت نسائي
ما بين صباح بريج في بيت حميمي يزخر بالذاكرة والفن التراثي، وبتول بني على المسرح، تبدو حلب حاضرة بصوتها القديم بنغمة جديدة تقدمها نساء المدينة. صباح وبتول تجربتان مختلفتان، لكنهما تلتقيان عند المعنى ذاته، وهو أن التراث لا يعيش إلا بمن يعيشه، وأن المرأة الحلبية لم تعد شاهدة على الغناء، بل أصبحت جزءًا من صوته.
في البيوت، تحفظ النساء الأغاني كأنهن يحفظن تاريخ المدينة في الذاكرة. وعلى المسارح، يجرّبن أن يكتبن فصلًا جديدًا من ذلك التاريخ، بصوت لا يقل صدقًا أو عراقة عن أصوات من سبقهن. الطريق أمامهن لا يزال طويلًا، لكنهن يمشين فيه بخطوات ثابتة، مؤمنات بأن الفن الأصيل ليس حكرًا على أحد، بل ميراث مشترك يحق لكل من يحبه أن يرويه بطريقته.
وفي مدينة أنهكتها الحرب، يعود الغناء ليكون أكثر من فن، فهو وسيلة للشفاء من ويلات الحرب والدمار، وإحياء للتراث والحنين، ودليل على الحياة والأمل بغد أفضل. بين التحفظ والإصرار، والتردد والحلم، تواصل النساء الحلبيات الغناء، يُغنين لأنفسهن أولًا، ثم للمدينة، ثم للتاريخ، ويسجلن عبورًا بثقافة الفن الأصيل نحو فضاء أرحب.