عنب بلدي – محمد ديب بظت شهد الخطاب الصادر عن "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) و"قوى الأمن الداخلي" (أسايش) خلال الأسابيع الأخيرة تحولًا ملحوظًا في اللغة المستخدمة. فبعد أن كانت النبرة تتسم بالاتهام والحدة تجاه حكومة دمشق، أصبحت الصياغات أكثر توازنًا وميلًا إلى إبراز التعاون الميداني والتنسيق المشترك.
اعتادت "أسايش" و"قسد" سابقًا على استخدام توصيفات حادة، مثل "المجموعات المسلحة التابعة لحكومة دمشق"، وعبارات من قبيل "الاعتداءات المتكررة" و"الاستفزازات"، بالإضافة إلى إدانة مستمرة لما تصفه بـ"تضليل الإعلام الرسمي التابع لحكومة دمشق".
يأتي هذا التحول بعد سلسلة مواجهات محدودة شهدتها مناطق التماس في حلب، تبعها انفتاح حذر بين الجانبين، تجلى في بيانات وتصريحات تظهر رغبة في التهدئة وتجنب التصعيد.
لهجة مختلفة في البيانات
في 9 تشرين الأول الماضي، نشرت "قسد" بيانًا ذكرت فيه أن استهداف نقاطها في "تلة سيريتل" ومحيط سد "تشرين" بالمدفعية الثقيلة تم من قبل "مجموعات مسلحة تابعة لحكومة دمشق"، في محاولة لإبراز الجانب العدائي للمواجهات دون استخدام توصيف رسمي للقوات الحكومية.
في نفس التاريخ، أصدرت "قسد" بيانًا آخر حول استهداف نقطة لها في قرية مراط بمنطقة القرى السبع بريف دير الزور الشرقي بواسطة طائرة مسيّرة، مستخدمة عبارة "فصائل مسلحة تابعة لحكومة دمشق" لوصف القوات التي نفذت الهجوم، وهو ما يعكس استمرار لغة التوصيف التصعيدية تجاه الحكومة السورية.
في 20 تشرين الأول، أصدرت "أسايش" بيانًا حول استهداف نقطة لقواتها في محيط حي الشيخ مقصود، واستخدمت فيه عبارة "قوات الحكومة المؤقتة ومسلحوها"، مع التركيز على تهديد أمن واستقرار المدنيين.
أما في البيانات الأخيرة، فقد اختفت اللغة التصعيدية لتحل محلها مفردات أكثر دبلوماسية، مثل "التنسيق"، و"الاتفاقيات المبرمة"، و"بادرة حسن نية". كما تم استبدال عبارة "قوات حكومة دمشق" بتوصيف "المسلحين"، في تحول لغوي يعكس اعترافًا ضمنيًا بشرعية الطرف الآخر في سياق التفاهمات الأمنية.
في 20 تشرين الأول أيضًا، نشرت "قسد" بيانًا أكدت فيه استقبال لجنة عسكرية من حكومة دمشق في مدينة الطبقة، وركزت فيه على التباحث حول التوترات في حيي الشيخ مقصود والأشرفية وسبل معالجتها بالطرق السلمية. في هذا البيان، استخدمت "قسد" مصطلحات رسمية، مثل "الجهات المعنية" بدلًا من توصيف القوات الحكومية السابقة.
في 22 تشرين الأول، أصدرت "أسايش" بيانًا حول زيارة وفد من الحكومة السورية إلى حيي الأشرفية والشيخ مقصود، وأشارت فيه إلى التنسيق مع قياديين من "أسايش"، دون أي توصيفات تصعيدية للجانب الآخر، واستخدمت لغة رسمية تمثل الترتيبات الإدارية والميدانية بين الطرفين.
في 25 تشرين الأول، أعلنت "أسايش" إعادة فتح طريق حاجز الجزيرة في محيط حي الشيخ مقصود، مشيرة إلى التنفيذ المشترك لبنود الاتفاقيات بين الجانبين، مع الإشارة إلى "إدارة الأمن العام" بدلًا من أي توصيف عدائي، ما يعكس التحول في الخطاب من لغة تصعيدية إلى لغة رسمية.
خطاب أكثر "مؤسساتية"
يظهر في الصياغات الجديدة ميل واضح نحو الطابع الإداري والمؤسساتي، إذ تركز البيانات على "تسهيل حركة الأهالي"، و"تحسين الخدمات"، و"الحفاظ على الاستقرار"، وهي مفردات لم تُستخدم في البيانات القديمة التي غلبت عليها لغة الدفاع ورد الفعل.
يشير هذا التغير إلى انتقال "قسد" من خطاب الحرب والمواجهة إلى خطاب الإدارة المحلية وإدارة التوازنات، في وقت تحاول فيه تعزيز موقعها كقوة ضامنة للأمن، لا كطرف في نزاع ميداني.
البيانات الأخيرة تحدثت عن لقاءات مباشرة بين وفود من "قسد" وحكومة دمشق في مدينة الطبقة، وعن إعادة فتح طرق وحواجز بحيي الأشرفية والشيخ مقصود بمدينة حلب بإشراف الجانبين، ما يعكس وجود تفاهمات عملية.
مصدر عسكري من وزارة الدفاع، قال لعنب بلدي، إن التغير في لهجة بيانات "قسد" و"أسايش" يعكس إدراكًا متأخرًا من تلك الجهات بأن الخطاب التصعيدي لم يحقق أي نتائج ميدانية أو سياسية، وأن لغة التنسيق باتت ضرورة بعدما فشلت محاولات فرض الأمر الواقع.
وأضاف المصدر الذي رفض نشر اسمه لأنه غير مخول بالتصريح لوسائل الإعلام، أن الانتقال من توصيف "قواتنا" (الجيش السوري) بالمسلحين إلى التعامل بصفة رسمية، يمكن قراءته كإشارة إلى تغيير في طريقة تعامل تلك الجهات مع مؤسسات الدولة السورية، معتبرًا أن هذا التحول قد يكون خطوة في الاتجاه الصحيح إذا تُرجم على الأرض بإجراءات ملموسة تعيد الاستقرار إلى المنطقة.
وحذر المصدر من قراءة هذا التحول على أنه مؤشر على تغير شامل في المواقف أو السياسات، مشيرًا إلى أن الخطاب الإعلامي غالبًا ما يعكس الظروف الميدانية الحالية، أكثر مما يعكس تحولًا طويل الأمد في التوجه السياسي أو العسكري لتلك القوات.
محاولة لإدارة التوتر
يرى الباحث الأكاديمي في العلاقات الدولية أنس أحمد تاجر، أن التحول في خطاب "قسد" و"أسايش" يعكس حالة من المراوغة السياسية وضبابية التفاهمات بين الطرفين، وليس بالضرورة تغيرًا جذريًا في الموقف أو الالتزام الكامل باتفاق 10 آذار الماضي.
وأشار تاجر، في حديث لعنب بلدي، إلى أن التصعيد العسكري، مثل مواجهات 6 تشرين الأول في حيي الشيخ مقصود والأشرفية، جاء في سياق سعي "قسد" لتعزيز موقعها الميداني والسياسي، وقد سبقته مؤشرات حشد لعناصرها واعتقالات وتجنيد للمواطنين، بالإضافة إلى ندوات ومؤتمرات سياسية تروج لمطالب الفيدرالية.
وأضاف أن الخطاب العدائي السابق لـ"قسد" حمل توصيفات غير رسمية للجيش السوري، مثل "مسلحي الحكومة السورية المؤقتة" أو "فصائل مسلحة تابعة للحكومة في دمشق"، بينما التغيير الأخير في اللغة، مثل وصف "عناصر قوات حكومة دمشق"، يعكس محاولة لتخفيف حدة التصعيد إعلاميًا، مع استمرار التأكيد على دور "قسد" في الدفاع عن مناطق سيطرتها وحماية السكان.
وأكد تاجر أن هذا التحول في الخطاب يجب قراءته بحذر، إذ يعكس تعديلًا شكليًا أكثر منه مؤشرًا على التزام كامل بالاتفاق أو تنازل عن مطالب الحكم الذاتي، وأن الخلافات الجوهرية حول تنفيذ بنود الاتفاق وما يرتبط بها من سياسات لا تزال قائمة، وأن التغيير اللغوي لا يعني بالضرورة اتفاقًا على أرض الواقع، بل محاولة لإدارة التوتر وتقليل الاحتكاك السياسي والميداني.