تحمل الأغنية الساحلية بين طياتها لحناً بسيطاً وعميقاً، يروي حكايات الأمل في مختلف مراحل الحياة، من الطفولة إلى الشباب والشيخوخة، معبراً عن قيم الحياة المتنوعة. ترتبط هذه الأغاني ارتباطاً وثيقاً بالتراث الشعبي، وغالباً ما تُستخدم في الغزل وفي الاحتفالات والمناسبات.
جذور الأغنية الساحلية
يقول مدير آثار أوغاريت، الباحث والخبير في التراث الدكتور غسان القيم، عن الأغنية الساحلية ومدلولاتها ونشأتها: "على امتداد الساحل السوري من جزيرة أرواد جنوباً إلى رأس البسيط شمالاً، تنبض الأغنية كأنها أنفاس البحر نفسه. إنها ليست مجرد نغم يُقال في الفرح أو العمل، بل هي ذاكرة جماعية صاغها صيادو البحر ومزارعو التبغ والنساء اللواتي ينتظرن عودة المراكب مع الغروب."
وأوضح الدكتور القيم أن جذور الأغنية الساحلية تعود إلى مئات السنين، حين كانت الحياة تعتمد على البحر كمصدر رزق وخوف في آن واحد. كانت الأغاني تولد من حركة الشراع وصوت المجداف، تواكب العمل وتخفف التعب وتزرع في النفوس الصبر والأمل. مثال ذلك، كان الصياد يغني: "يا بحر يا غدّار ما لك أمان تاخذ الأحباب وتترك الحيران." وأشار إلى أن هذه الأهازيج القديمة كانت وسيلة للتواصل بين المراكب في البحر قبل أن تكون غناءً بالمعنى الفني الحديث.
أنماط الأغاني
أكد الدكتور القيم أنه في الساحل السوري العريق يمكن تمييز أنماط عدة من الغناء الشعبي، لكل منها وظيفة ومعنى. فالأغاني البحرية هي الأقدم، وتؤدى أثناء الإبحار أو سحب الشباك، وتتميز بإيقاع متواتر يشبه خفقان الأمواج. أما الأغاني الزراعية، فقد ظهرت في القرى الساحلية التي تمزج بين البحر والجبل، ويغنيها الفلاحون أثناء القطاف وجمع الزيتون أو التبغ، وتحمل طابعاً شجياً عميقاً.
وعن الأغاني النسائية، يذكر الدكتور القيم أن النساء كن يؤلفن أغاني خاصة بهن أثناء العجن أو الغزل أو انتظار الأزواج البحارة، وغالباً ما تمزج الحنين بالرجاء. لافتاً إلى أن الأغاني الاحتفالية كانت تُؤدى في الأعراس والمواسم الدينية، حيث تختلط الدبكة الساحلية بإيقاعات الطبل والمجوز. وأكد أن هذه الأغاني انتقلت شفهياً من جيل إلى جيل، دون تدوين أو توثيق حتى منتصف القرن العشرين، حين بدأ بعض الباحثين بجمعها وتسجيلها ضمن أرشيف التراث الشعبي السوري.
كلمات بسيطة مشبعة بالصور
يضيف مدير آثار أوغاريت أن ما يميز الأغنية الساحلية أنها ليست "أغاني مؤلفين" بل "أغاني الناس"، كلماتها بسيطة لكنها مشبعة بالصور البحرية والرموز الشعبية، كالموج والنوارس والمراكب والغياب والحب الذي يذوب في ملوحة البحر.
وأوضح أن البحر في الغناء الساحلي ليس فقط مكاناً، بل شخصية أسطورية أب وأخ وغريم وصديق. تغني له النساء حين يسرق أحبتهن، ويغني له الرجال حين يعيدهم سالمين. ولذلك نجد في الأغنية الساحلية دائماً جدلية الحياة والموت، الفرح والفقد، الحب والانتظار، وهي سمات تراثية تعبر عن فلسفة الإنسان الساحلي في مواجهة الطبيعة.
ويختم الباحث في التراث الدكتور غسان القيم مؤكداً أنه مع مرور الزمن تأثر هذا التراث بالأغنية الحديثة، لكن كثيراً من الفنانين السوريين أعادوا إحياءه بأساليب معاصرة، محافظين على روح الساحل في اللحن والكلمة. فنجد اليوم ألحاناً تستلهم الموروث البحري في موسيقى الجاز أو الطرب المعاصر، وكأن الموج القديم ما زال يهمس في الخلفية.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية