"حرب المعلومات": كتاب يكشف كيف تسيطر الدول على العقول في العصر الرقمي


في كتابه "حرب المعلومات – كيف تسيطر الدول على عقولنا"، يفتح دافيد كولون (هاشيت أنطوان/نوفل، ترجمة أدونيس سالم) نافذة على عالم تتلاشى فيه الحدود التقليدية للحروب، لتحل محلها أسلاك الألياف والخوارزميات. يكشف الكتاب عن الأدوات التي تستخدمها الدول للهيمنة على العقول، ويستعرض خرائطها التقنية والنفسية.
يوضح كولون أنه بعد الحرب الباردة وزوال الاتحاد السوفياتي، لم تعد السيطرة تقاس بعدد الدبابات أو الصواريخ، بل بمدى النفوذ في فضاء المعلومات، حيث تُصاغ القوة اليوم من البيانات والخداع، لا من البارود والحديد.
يستعرض كولون في "حرب المعلومات" تعريفات متباينة، فالجيش الأميركي يرى فيها "تفوقاً في مجال المعلومات يتيح التحكم في مجريات الصراع"، بينما يعتبرها الروس "أداة لتحقيق الأهداف الوطنية في السلم والحرب بالتأثير على مصادر معلومات العدو"، أما الفكر الصيني فيصفها بأنها "نضال للسيطرة على إنتاج وتدفق المعلومات". وفي جوهر هذه التعريفات هدفان: تحصين الذات وإضعاف الخصم.
يتساءل كولون: كيف تسيطر الدول على عقولنا؟ ويقدم عبر فصول كتابه سرداً توثيقياً عن حرب تُخاض بلا جيوش مرئية. فمن ظهور الشبكة العنكبوتية إلى زمن "التزييف العميق"، تتجسد المعلومة كسلاح قادر على إعادة تشكيل الواقع، وضمان ولاء الشعوب الحليفة وزعزعة استقرار الدول المعادية. إنها حرب تُخاض بالكذب والتضليل والتحوير، حيث تُزرع الشكوك وتُختلق الحقائق لتوجيه الرأي العام.
في التجربة الأميركية، تُمارس الهيمنة عبر ما تسميه واشنطن "التدفق الحر للمعلومات"، أي قوة ناعمة توظف السينما الهوليوودية، والمنشورات العلمية، وجوائز نوبل، ومنصات التواصل، في خدمة نفوذها العسكري والسياسي. أما الشركات الرقمية العملاقة مثل "غوغل" و"فيسبوك"، فقد أسهمت في تكريس هذه السيطرة على العقول وتحويلها إلى بنية تحتية للتأثير العالمي.
في المقابل، طورت موسكو منظومة دفاعية وهجومية مضادة. فالشركة الروسية "فولكان"، المتعاقدة مع أجهزة الاستخبارات الثلاثة (FSB ، SVR، GRU )، ابتكرت أدوات تحليل وهجوم مثل "Scan-V" و"Amezit"، القادرة على مراقبة الإنترنت وتوجيهه وخلق بصمات رقمية مزيفة. هذه الترسانة السيبرانية تكشف أن الكرملين يرى فضاء المعلومات امتداداً طبيعياً لساحة المعركة. وتستند العقيدة الروسية إلى مفهومي "الأمن المعلوماتي" و"التحكم برد فعل العدو"، مقرونة بإجراءات داخلية صارمة: تقييد الإعلام، اغتيال المعارضين، ووضع القنوات في خدمة الدولة. أما الصين، فتنخرط في ما تسميه "الحروب الثلاث": النفسية، والرأي العام، والقانونية. حرب تهدف إلى تقويض المؤسسات الدولية وتخريب الإعلام العالمي. تعتمد بكين على المؤثرين، والمنصات، والدعاية الرقمية، وتشن هجمات سيبرانية على واشنطن، فيما تدعم روسيا إعلامياً وتفتح لـ"الدعاية الروسية" السجادة الحمراء عبر "تيك توك" ووسائلها الحكومية.
يتوقف كولون عند ظاهرة نظريات المؤامرة بوصفها أحد أسلحة حرب المعلومات. فحركة QAnon تمثل "فيروساً نفسياً" يولد غرف صدى رقمية تنسج سرديات مغلقة تنتقل بين اللغات والقارات. ويستند المؤلف إلى دراسة لمعهد MIT تُظهر أن الأكاذيب تنتشر أسرع من الحقيقة، ما يجعل من التضليل طاقة قابلة للتوسع الذاتي. وفي أقصى تجلياتها، تجسدت حرب المعلومات في تنظيم "داعش" الذي ابتكر نموذج "الخلافة السيبرانية"، وهو مزيج من الدعاية عالية الإنتاج والمجلات الرقمية متعددة اللغات، قادرة على تجنيد الأتباع بالعاطفة والصورة.
يدعو كولون إلى حال طوارئ معلوماتية، لا بوليسية بل مدنية، تحمي العقول من دون أن تخنق حرية التعبير. ويقترح إجراءات عملية: تسجيل العملاء الأجانب، دعم الإعلام العام المستقل، إنشاء مرصد لكشف حملات التدخل على غرار مشروع ( Hamilton 2.0)، وتجنيد شباب متمرسين رقمياً للرد السريع وفق قاعدة "2-2-2".
يرى البعض أن المؤلف يميل بوضوح إلى المعسكر الغربي، متغاضياً عن مسؤولية الهيمنة الأميركية والشركات الرقمية التي تحول المعلومة إلى سلعة. كما تبقى دعوته إلى "الطوارئ المعلوماتية" بحاجة إلى ضمانات تحمي الحقوق من الرقابة المقنعة.
"حرب المعلومات" ليس كتاباً عن التقنية بقدر ما هو عن الإنسان في زمن الخداع المنهجي. فالمعركة لم تعد بين جيوش وجيوش، بل بين سردية وأخرى، بين وعي محصن وآخر مخترق. في هذه المنطقة الرمادية بين الحرب والسلام، يمكن لأي إشاعة أن تشعل نزاعاً، ولأي خوارزمية أن تغير مصير أمة.
إنها حرب لا تُرى… وغزاة بلا خرائط، ومعظم ضحاياها عقولنا.
سياسة دولي
سياسة دولي
سياسة دولي
سياسة دولي