يشكل ملف "المهاجرين" (المقاتلون الأجانب) تحديًا كبيرًا للدولة السورية الحديثة، إذ تتصارع بين الوفاء للمقاتلين الذين كانوا يشكلون "نواة صلبة" في "هيئة تحرير الشام"، ومراعاة المصالح الخارجية للدولة التي تسيطر عليها "الهيئة"، والالتزام بتعهداتها أمام الغرب والشرق على حد سواء. هؤلاء المقاتلون، الذين قاتلوا جنبًا إلى جنب مع السوريين ضد النظام السابق على مدى 14 عامًا، أصبحوا الآن محور تجاذبات سياسية ومطالبات من دول أوروبية وآسيوية لحل هذا الملف وإبعادهم عن المناصب القيادية في الدولة، بالإضافة إلى تسليم بعضهم للمحاكمة.
في المقابل، يطالب سوريون بـ"حفظ الود" لهؤلاء الأجانب، الذين ابتعد بعضهم عن القتال واتجهوا نحو التجارة وتزوجوا من السكان المحليين، بينما أصبح بعضهم موظفين حكوميين أو عناصر في الجيش النظامي. تتناول عنب بلدي في هذا الملف قضية هؤلاء المقاتلين وتأثير وجودهم على السياسة الخارجية السورية، بالإضافة إلى السيناريوهات المحتملة لوجودهم في سوريا، مع التركيز على دمج 3500 منهم في الجيش السوري وكيفية استفادة سوريا من خبراتهم القتالية، بالنظر إلى تجارب دول أخرى.
ورقة رابحة أم اختبار؟
عاد ملف المقاتلين الأجانب في سوريا إلى الواجهة بعد زيارة وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، إلى الصين في 17 تشرين الثاني الحالي. حملت هذه الزيارة التزامًا سوريًا بعدم السماح باستخدام الأراضي السورية كمنصة لـ"أي أنشطة تهدد أمن أو مصالح الصين". لا يقتصر قلق الصين على ملف المقاتلين، حيث طالبت مرارًا سوريا بالوفاء بالتزاماتها في مكافحة "الإرهاب" واتخاذ إجراءات حاسمة للتصدي للأعمال الإرهابية وتهديد المقاتلين الأجانب، بمن فيهم الإيغور، بل يمتد القلق ليشمل الدول الأوروبية التي أبلغت دمشق بأن أولويتها القصوى هي القضاء على "المقاتلين الجهاديين"، وأن الدعم الدولي للحكومة السورية قد يتبخر ما لم تتخذ إجراءات حاسمة في هذا الملف.
من هم ومن أين أتوا؟
مع سقوط النظام في 8 كانون الأول 2024، بدأت الدول تحذر من المقاتلين الأجانب في سوريا ومن دمجهم في الجيش، لكن موافقة أمريكية في حزيران الماضي سمحت بدمج نحو 3500 مقاتل أجنبي في الجيش السوري، معظمهم من الإيغور من الصين والدول المجاورة، وسينضمون إلى الفرقة "84" التي جرى تشكيلها حديثًا وتضم سوريين أيضًا. بدأ تدفق المقاتلين الأجانب إلى سوريا منذ عام 2011، حيث انضموا إلى مختلف أطراف الصراع. فبينما انضم "الجهاديون" منهم إلى الثورة السورية وقوات المعارضة السورية "نصرة للمظلومين"، ذهب بعضهم إلى تنظيم "الدولة الإسلامية"، بينما استقدم النظام السابق عددًا من المقاتلين العراقيين والإيرانيين وجنسيات أخرى. انحسر نشاط المقاتلين الأجانب في شمال غربي البلاد، ضمن مناطق سيطرة "هيئة تحرير الشام" (سابقًا). وبينما لا توجد إحصاءات دقيقة حول أعدادهم، لا يزيدون بمجملهم مع عائلاتهم على خمسة آلاف فرد، ينتمون إلى 15 دولة على الأقل، من بينها السعودية وتونس والجزائر والأردن والمغرب ومصر والسودان وكوسوفو وألبانيا والشيشان والجبل الأسود وصربيا ومقدونيا الشمالية وتركستان الشرقية وفرنسا، وفق دراسة لمركز "جسور للدراسات".
عرض عسكري لمقاتلين في إدارة العمليات العسكرية في العاصمة السورية دمشق – 27 كانون الأول 2024 (الوكالة الفرنسية)
أثرهم على العلاقات الخارجية
اعتبر الباحث السوري والأكاديمي سمير العبد الله أن ملف المقاتلين الأجانب في سوريا من أكثر الملفات حساسية في المرحلة الانتقالية، لما يحمله من "تداعيات أمنية وسياسية تمسّ مصالح دول إقليمية ودولية عديدة". بحسب ما قاله العبد الله لعنب بلدي، فإن روسيا تخشى عودة المقاتلين القوقاز والأوزبك والطاجيك، بينما تنظر الصين بـ"قلق بالغ" إلى ملف مقاتلي التركستان والإيغور، فيما تبدي فرنسا ودول أوروبية هواجس مشابهة تجاه المقاتلين من أصول أوروبية. وينطبق الأمر ذاته، بحسب الباحث السوري، على دول المنطقة، وفي مقدمتها العراق ومصر، التي تخشى أن يؤدي انتصار المعارضة السورية إلى "تعزيز الروح القتالية لهؤلاء المقاتلين وتحويل سوريا إلى قاعدة انطلاق محتملة نحو بلدانهم".
تزامنًا مع زيارة وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، إلى الصين، في 17 تشرين الثاني، نقلت وكالة "فرانس برس" عن مصدرين سوريين أن الحكومة السورية ستسعى إلى تسليم 400 مقاتل من الإيغور إلى الصين، فيما نفت الخارجية السورية في وقت لاحق ذلك. وتميل هذه الدول، وفق الباحث السوري، إلى إبقاء المقاتلين داخل سوريا وفق تفاهمات مع الحكومة الجديدة، بشرط عدم تمكينهم من أي دور سياسي أو إداري، وضمان عدم تحوّلهم إلى مصدر تهديد لأمنها القومي. وخلال الأشهر الماضية، شكل المقاتلون الأجانب عقدة للغرب، إذ أوضح ثلاثة مبعوثين أوروبيين خلال اجتماع مع وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، في دمشق، أن أولويتهم القصوى هي القضاء على "المقاتلين الجهاديين"، وأن الدعم الدولي للحكومة السورية قد يتبخر ما لم تتخذ إجراءات حاسمة في هذا الملف. وحذر مبعوثون أمريكيون وفرنسيون وألمان الإدارة الجديدة في سوريا من أن تعيينها "جهاديين أجانب" في مناصب عسكرية عليا يمثل "مصدر قلق أمنيًا وسيئًا" لصورتها في الوقت الذي تحاول فيه إقامة علاقات مع دول أجنبية.
لا تملك الحكومة السورية أو دول المنبع لهؤلاء المقاتلين "رؤية لحل هذه القضية"، وفق المحلل السياسي والكاتب السوري فراس علاوي، الذي أشار إلى أن المقاتلين موجودون في أكثر من جهة غير "هيئة تحرير الشام"، فمنهم من كان مع النظام السابق، ومنهم من كان مع تنظيم "الدولة". علاوي يعتقد، في حديثه إلى عنب بلدي، أن ملف المقاتلين الأجانب له أثر واضح على السياسة الخارجية السورية، إذ كان ملفًا حاضرًا في اللقاءات التي أجراها مسؤولون سوريون في تلك الدول، ليطرح عدة أسئلة تتعلق بكيفية حل هذا الملف، "هل سيكون في الدول الأصلية لأولئك المقاتلين أم على الأراضي السورية، هل سيجري ترحيلهم أم دمجهم، كلها أسئلة تفرض نفسها على السياسة السورية"، بحسب المحلل السياسي السوري.
الصين امتنعت عن التصويت لمصلحة قرار مجلس الأمن القاضي برفع العقوبات عن الرئيس السوري، أحمد الشرع، في 6 تشرين الثاني الحالي، مبررة "موقفها بعدم تلبية القرار للمبادئ والاعتبارات التي تراها ضرورية لتحقيق الاستقرار في سوريا ومكافحة الإرهاب". وقال المندوب الصيني الدائم لدى الأمم المتحدة، فو جونغ، خلال كلمته عقب الجلسة، إن على سوريا الوفاء بالتزاماتها في إطار مكافحة "الإرهاب"، واتخاذ إجراءات حاسمة للتصدي للأعمال الإرهابية وتهديد المقاتلين الأجانب، وبينهم عناصر "الحركة الإسلامية التركستانية الشرقية" (ETIM) الموجودون داخل الأراضي السورية، وهم من الأغلبية الإيغورية الصينية.
ثلاثة سيناريوهات
لا يزال مصير المقاتلين الأجانب، بعد سقوط النظام السوري السابق في 8 كانون الأول 2024، مجهولًا، دون أن تبتّ السلطات السورية فيه، بالرغم من الإشارات الدالة إلى نية لتوطينهم. المقاتلون الذين جاؤوا إلى سوريا أفرادًا أو مع عوائلهم، وبعضهم كوّن عائلات من نساء سوريات أو أجنبيات، وبعضهم انتقل من العمل العسكري إلى ميدان التجارة، ينتظرون مصيرهم، بين من يطالب بالجنسية، وآخرون صاروا جزءًا من الحكومة السورية، لا سيما في وزارة الدفاع، وغيرهم قد لا ينوي البقاء.
وخلال لقائه بالرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في 7 أيار الماضي، تحدث الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، عن مستقبل المقاتلين الأجانب، مشيرًا إلى أنهم جاؤوا إلى سوريا فرادى لا جماعات دعمًا للشعب السوري خلال الثورة. وأضاف الشرع أن الحكومة السورية تضمن لجميع دول العالم أن المقاتلين الأجانب الذين بقوا في سوريا لن يشكلوا خطرًا على أي من الدول المجاورة، ولن يُلحقوا الضرر ببلدانهم التي جاؤوا منها. وحول إمكانية منح الجنسية للمقاتلين الأجانب، قال الرئيس الشرع إن الدستور السوري عندما يصاغ سيحدد من يحق له الحصول على الجنسية من المقاتلين الأجانب وعائلاتهم.
الباحث السوري سمير العبد الله، يرى أن ملف المقاتلين الأجانب أكثر تعقيدًا بالنسبة للحكومة السورية، فجزء من هؤلاء كان يُعتبر من "النواة الصلبة" داخل "هيئة تحرير الشام"، مما يجعل التخلي عنهم أو تسليمهم لأي طرف خيارًا محفوفًا بـ"ردود فعل داخلية غاضبة". كما أن بعض المقاتلين، بحسب العبد الله، يرفضون فكرة التجنيس السوري أصلًا، لأنهم يعتبرون وجودهم في سوريا مرحلة مؤقتة قبل العودة إلى بلدانهم. بالمقابل، فإن مقاتلين أجانب التحقوا بالقتال في سوريا خلال سنوات الحرب، تقدموا بطلب إلى الحكومة السورية للحصول على الجنسية، وفق ما ذكرته وكالة "رويترز" في تقرير نشرته في 15 آب الماضي. الطلب، الذي قالت وكالة "رويترز" إنها اطلعت عليه، قدّمه بلال عبد الكريم (ممثل أمريكي يعمل مراسلًا حربيًا في سوريا) إلى وزارة الداخلية السورية، وجاء فيه أن منح الجنسية سيتيح لهؤلاء الأجانب الاستقرار، وتملّك الأراضي، والحصول على جواز سفر سوري.
لقد تقاسمنا الخبز، وتقاسمنا الحزن، وتقاسمنا الأمل في مستقبل حر وعادل لسوريا (…) ومع ذلك، فإن وضعنا نحن المهاجرين لا يزال غير مؤكد.
نلتمس بكل احترام من القيادة السورية، بحكمة ورؤية وأخوّة، أن تمنحنا الجنسية السورية الكاملة وحق الحصول على جواز سفر سوري.
رسالة من بلال عبد الكريم إلى الحكومة السورية
وكالة "رويترز" – 15 آب 2025
وقال عبد الكريم لـ"رويترز"، إن الالتماس يهدف إلى مساعدة آلاف الأجانب من أكثر من عشر دول، من بينهم مصريون وسعوديون ولبنانيون وباكستانيون وإندونيسيون ومالديفيون، إضافة إلى بريطانيين وألمان وفرنسيين وأمريكيين وكنديين، وكذلك أشخاص من أعراق شيشانية وإيغورية. وتأكدت وكالة "رويترز" من ثلاثة أجانب في سوريا، بريطاني وإيغوري وفرنسي، أنهم وقّعوا على الطلب.
ما مصيرهم؟
مصير المقاتلين الأجانب يحتاج إلى مسار شامل لمعالجته، بحيث يجمع بين مقتضيات الأمن الوطني والتزامات الدولة السورية تجاه المقاتلين الذين يندمجون في نسيج المجتمع، بحسب ما يراه الباحث في شؤون الجماعات الجهادية عرابي عبد الحي عرابي. ووفق الباحث السوري سمير العبد الله، فإن السيناريو الأكثر واقعية يتمثّل في "صياغة تسوية متعددة الأطراف، تضمن لدولهم الاطمئنان لعدم عودتهم، وتضمن للبيئة السورية ضبط تحركاتهم ومنعهم من التأثير في المشهد السياسي أو الأمني".
يبقى النجاح في هذا الملف مرهونًا بقدرة الحكومة السورية الانتقالية على فرض رقابة فعالة على نشاط هؤلاء المقاتلين، وتقديم ضمانات أمنية للدول المعنية، واحتواء حساسية الفصائل المحلية تجاه المقاتلين الأجانب الذين قاتلوا إلى جانبها، ومنع أي حضور سياسي أو عسكري مستقل لهم داخل سوريا.
د. سمير العبد الله
مدير وحدة تحليل السياسات في "المركز العربي لدراسات سوريا المعاصرة"
واعتبر الباحث السوري أن مآلات هذا الملف ستشكّل "اختبارًا حقيقيًا" لقدرة الإدارة السورية الجديدة على إدارة "توازنات معقدة"، تجمع بين متطلبات الأمن الوطني، وضمان الاستقرار الداخلي، والوفاء بالتزاماتها. بينما يرى المحلل السياسي السوري فراس علاوي، أن ملف المقاتلين الأجانب "ورقة رابحة" بيد الحكومة السورية حيث من الممكن أن تكون هناك "مقايضات" ولكنها ستكون حسب رؤية الحكومة، تتعلق بملفات المقاتلين الأجانب ضمن تنظيم "الدولة الإسلامية" أكثر منها بالمقاتلين الذين كانوا مع "هيئة تحرير الشام"، لاعتبارات أخلاقية واعتبارات تتعلق بنفوذ هؤلاء ضمن الحكومة السورية.
ثلاثة احتمالات
من جانبه، يرى الباحث في شؤون الجماعات الجهادية عرابي عرابي، أن مصير المقاتلين الأجانب يختلف بحسب المسارات الأمنية والحقوقية والعلاقات الدولية وسياسات الدول. وتحدد مصيرهم مجموعة من المسارات المتوازية والمتقاطعة، من خلال ثلاثة تفاعلات: سياسات دول المنشأ التي قدم منها المقاتلون الأجانب، والترتيبات القانونية والأمنية للدولة السورية المقبلة، والعوامل الفردية والاجتماعية لكل مقاتل وعائلته.
ويعتقد الباحث عرابي، أن من لا يرغب بالبقاء في سوريا ستتاح له العودة لدولته بالتنسيق معها أو فتح الطريق أمامه للمغادرة. أما من يرغب بالبقاء المنظم في سوريا، فإن بقاءه سيكون ضمن شروط المواطنة وعدم الخروج عن سياسة الدولة السورية. وحدد الباحث المصير المحتمل لـ"المهاجرين" وفق ثلاثة سيناريوهات: السيناريو الأول، يتعلق بمقاتلي تنظيم "الدولة" المعتقلين، حيث يتطلب هذا الملف تعاونًا من دول المنشأ، التي تختلف سياساتها بين الاستعادة للنساء والأطفال أو رفض استقبال المقاتلين الذكور ومحاكمتهم. أما السيناريو الثاني، فيتيح للمقاتلين الأجانب البقاء في سوريا بوصفهم سوريين يستحقون نيل مواطنتها ضمن شروط واضحة، خاصة أولئك الذين لا يمتلكون سجلًا "متطرفًا خطيرًا". أما السيناريو الثالث، فهو الإبقاء على الأمور مغلقة دون حل، كما هو الحال في مقاتلي تنظيم "الدولة" لدى "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) ومخيم "الهول"، مما يعيد إنتاج بيئات التطرف والتهديد. وأشار إلى أن هذا الخيار قد ينتج أجيالًا جديدة من العنف المحتمل، ويكرّس اقتصادًا موازيًا وشبكات تهريب وهشاشة أمنية مستمرة.
مقاتلون إيغوريون من الحزب الإسلامي التركستاني – 19 أيلول 2024 (YURTUGH TACTICAL)
خبرات تقنية وقتالية..
كيف تستفيد سوريا منهم؟
استطاع بعض المقاتلين الأجانب الانخراط في المجتمع السوري، وعمل بعضهم في مهن مختلفة خلال وجودهم في محافظة إدلب، ويلقى هؤلاء المقاتلون قبولًا اجتماعيًا في المحافظة نظرًا إلى سلوكياتهم التي يصفها أهالٍ التقتهم عنب بلدي بـ"المحترمة". واستفادت "هيئة تحرير الشام" (حلت نفسها) سابقًا من الأكاديمية التي أسسها ”أبو سلمان البيلاروسي” برفقة مقاتلين أتوا من روسيا وبلدان الاتحاد السوفييتي السابق، والتي تُعرف باسم "ملحمة تاكتيكال"، والتي دربت القوات الخاصة التابعة لـ"الهيئة"، والمعروفة باسم "العصائب الحمراء". وبعد سقوط النظام، دمجت وزارة الدفاع السورية 3500 مقاتل أجنبي أغلبهم من الإيغور المنضوين تحت راية "الحزب الإسلامي التركستاني" ضمن "الفرقة 84" التي تتمركز في الساحل السوري، إضافة إلى آخرين في "الفرقة 82″، التي توجد في إدلب.
يرى المحلل السياسي والباحث في مركز "جسور للدراسات" محمد السليمان، أن هناك بعض الدول التي ترى أن ملف المقاتلين الأجانب لا يشكل تهديدًا فعليًا لأمنها، نظرًا إلى التزامهم بأوامر قياداتهم وانضباطهم العسكري وتولي الحكومة السورية مسؤولية ضبطهم، مما يجعلهم بعيدين عن التسبب بأي إشكالات داخلية محلية أو خارجية. وتتخوف دول أخرى من إمكانية أن يتحول بعض هؤلاء المقاتلين إلى مصدر للتحريض قد يؤثر في مواطنيها، ويسهم في دفعهم نحو تبني أنماط فكرية أو سلوكية تهدد أمن ومصالح تلك الدول، بحسب السليمان.
تحويلهم إلى خبراء تقنيين
أثبت المقاتلون الأجانب أنهم يمتلكون عقيدة قتالية انضباطية وتكتيكات "القوات الخاصة" التي تفتقر إليها الفصائل المحلية، والتي هي عماد الجيش السوري اليوم، وللاستفادة منهم بشكل صحيح يجب تحويل دورهم من "مقاتلين عقائديين" إلى خبراء تقنيين، وفق رؤية الباحث في الشؤون العسكرية والأمنية العقيد خالد المطلق. ويكون ذلك عبر نقل المعرفة، واستخدام هؤلاء المقاتلين كمدربين في كليات حربية متخصصة، وتجربتهم في حرب العصابات كالقنص والاقتحامات الليلية كما "العصائب الحمراء". ويمكن مأسسة هذه الأكاديميات لتخريج ضباط سوريين جدد وتحويلها إلى مراكز تدريب رسمية تحت إشراف وزارة الدفاع، لضمان أن العقيدة القتالية تخدم الدولة لا الفصيل.
وتابع المطلق أنه يمكن تشكيل وحدات صغيرة عالية التجهيز (على غرار الفيلق الأجنبي الفرنسي) للقيام بمهام نوعية، منها مكافحة "الإرهاب" وتفكيك الخلايا النائمة لتنظيم "الدولة" أو غيرها، أو لضبط الحدود الصعبة كالحدود مع لبنان والعراق. وأشار إلى أن هؤلاء المقاتلين غالبًا لا يملكون روابط عشائرية أو محسوبيات محلية، مما يجعلهم أكثر صرامة في تنفيذ القانون ضد الفساد أو الفلتان الأمني الداخلي. وقال الباحث في الشأن السياسي وجماعات ما دون الدولة عمار فرهود، لعنب بلدي، إنه يمكن للدولة السورية أن تستفيد من خبرة هؤلاء المقاتلين في مجالين رئيسين: الأول: هو المجال التقني، من خلال نقل الخبرات وتوطين المهارات داخل المؤسسة العسكرية السورية، سواء في التدريب، والإدارة، والحرب السيبرانية، أو مجالات فنية وعسكرية أخرى. الثاني: من خلال قادة هذه المجموعات، عبر ضبطها وإدماجها في نهج المؤسسة العسكرية بمكافحة التحديات السورية وعلى رأسها تنظيم "الدولة" وميليشيات إيران.
مقاتل إيغوري من الحزب الإسلامي التركستاني خلال عمليات تدريب – 18 آب 2024 (YURTUGH TACTICAL)
قنبلة موقوتة
لعب المقاتلون الأجانب دورًا في قتال جيش الرئيس المخلوع بشار الأسد، وكان دورًا مهمًا، بحسب الباحث في الجماعات الإسلامية منير أديب، وأحدثوا طفرة في مواجهة النظام، وهذا فيما يتعلق بالماضي. أما فيما يتعلق بالمستقبل، فيعتقد الباحث منير أديب أن هؤلاء المقاتلين بمثابة "قنبلة موقوتة"، لأنهم لم يقاتلوا من أجل سوريا كوطن، بل من خلفية أيديولوجية، وقد جاؤوا بهذه الخلفية واستمروا بها في القتال، ولن يتخلوا عن هذه الخلفية إن تم دمجهم في الجيش السوري.
ودمج هؤلاء المقاتلين ضمن فرقة واحدة في الجيش السوري ربما يكون ضرره أكبر من نفعه، فبالرغم من أن فكرة الاستفادة من خبراتهم قد تدعم الجيش، وقد تكون بمثابة نواة أيديولوجية ربما تجعله أكثر قوة وعنفًا إذا ما واجه خصومه، ولكنها في ذات الوقت قد تكون ذات أثر سلبي بسبب الخلفية الأيديولوجية لهؤلاء المقاتلين الذين قد يمثلون خطرًا على أمن البلاد، بحسب أديب. ويرى الباحث في الشأن السياسي وجماعات ما دون الدولة عمار فرهود، أن الجانب السلبي بالنسبة للمقاتلين ينحصر في بعض الأفراد وليس في الكتل البشرية المنظمة، فبعض هؤلاء الأفراد قد ينتهج طريقًا خارج القانون، مثل الالتحاق بتنظيمات متطرفة أو بمجموعات تهريب أسلحة أو مخدرات، أو الالتحاق بعصابات الخطف والجريمة المنظمة. وبالرغم من أنها تهديدات بغالبها منخفضة، فإن من المحتمل وجود أفراد يختارون طرقًا مضادة للطريق الذي اختارته الحكومة السورية ومؤسساتها العسكرية.
أزمة الشرعية والسيادة.. الولاء لمن؟
يقاتل الجندي السوري لأجل أرضه وعرضه، والمقاتل في "الفرقة 84" يقاتل لأجل البقاء أو العقيدة، وهذا يخلق فجوة في العقيدة القتالية للجيش الوطني، بحسب حديث الباحث في الشؤون العسكرية والأمنية العقيد خالد المطلق. كما أن وجود مقاتلين من الإيغور أو القوقاز ضمن جيش نظامي سيجعل الدولة السورية في مواجهة مباشرة ودائمة مع الصين وروسيا، اللتين ستعتبران سوريا ملاذًا آمنًا لـ"الإرهاب"، ومصدرًا لتهديد أمنهما القومي، مما قد يعزل سوريا الجديدة دوليًا ويحرمها من مشاريع الاستثمار وإعادة الإعمار مثل طريق الحرير.
وجود كتلة عسكرية غريبة اللغة والثقافة، ومسلحة بسطوة الدولة، سيخلق حساسيات مع السكان المحليين، وأي تجاوز فردي من عنصر أجنبي ضد مواطن سوري لن يُفسر كحادثة فردية بل كـ"احتلال مبطن"، بحسب المطلق. ويعود المطلق إلى التاريخ الإسلامي، ويحذر من خطر المماليك الجدد، فالتاريخ الإسلامي، بحسب المطلق، مليء بأمثلة استعانة الدول بمقاتلين أجانب مثل المماليك والانكشارية لحماية السلطة، لينتهي الأمر بهؤلاء المقاتلين بالسيطرة على الحكم وتحويل الحكام إلى دمى، و"الفرقة 84" قد تتحول بمرور الوقت إلى قوة عسكرية تفرض شروطها السياسية على الحكومة.
تفكيك الكتل الصلبة
لتتمكن الدولة من الاستفادة من المقاتلين الأجانب، وتجنب الاصطدام معهم، ينصح الباحث في الشؤون العسكرية والأمنية العقيد خالد المطلق، أن تكون استراتيجية الدولة السورية مبنية على الاستيعاب الفردي لا الجماعي من خلال تفكيك الكتل الصلبة. ولا يجب السماح ببقاء "الفرقة 84" ككتلة واحدة متجانسة، ويجب تفكيكها وتوزيعها كأفراد أو مجموعات صغيرة جدًا ضمن ألوية سورية واسعة بحيث يذوبون في النسيج الوطني.
ودعا المطلق إلى الاستفادة التقنية من هؤلاء المقاتلين لا الاعتماد على تحقيق الأهداف الاستراتيجية، أي الاعتماد عليهم في التدريب والتكتيك، لكن لا يمكن تسليمهم مفاتيح الأمن أو حماية العاصمة. ومن لا يقبل الاندماج الكامل، والتخلي عن أجندته الخارجية، يجب تسهيل خروجه أو تحييده لأن تكلفة بقائه السياسية أعلى بكثير من فائدته العسكرية، بحسب المطلق.
المقاتل الأوزبكي أبو دجانة من أنشطة التدريب المشتركة بين أكاديميات التدريب العسكرية الأجنبية (Daniele Garofalo Monitoring)
فصائل أجنبية قاتلت إلى جانب المعارضة السورية
"الحزب الإسلامي التركستاني"
سُجل أول دخول للحزب إلى سوريا في تموز من عام 2013، وهو مصنّف على قوائم الإرهاب لدى كل من روسيا والصين والولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها من الدول، إلا أن الولايات المتحدة أزالت الحزب من قائمة المجموعات الإرهابية في تشرين الثاني عام 2020. عدد مقاتلي الحزب نحو 3500 شخص، بحسب معلومات وثقتها عنب بلدي في 2019، ومعظمهم من الإيغور الصينيين الذين تعرضوا لعمليات قمع ومحو لهويتهم الثقافية والدينية من قبل الحكومة الصينية. حل الحزب نفسه في حزيران الماضي، معلنًا انضمامه لوزارة الدفاع وانضواءه ضمن "الفرقة 84" والتزامه بالسياسات الوطنية، نائيًا بنفسه عن أي ارتباطات خارجية.
"فرقة الغرباء" الفرنسية
تأسست عام 2013، ويقودها الفرنسي ذو الأصول السنغالية عمر أومسن (49 عامًا)، المصنف في أمريكا كـ"إرهابي عالمي". تضم "الغرباء" نحو 70 مقاتلًا فرنسيًا، ولها تاريخ غير ودي مع "هيئة تحرير الشام"، التي اعتقلت أومسن لمدة 17 شهرًا. تقيم "فرقة الغرباء" في مخيم قرب مدينة حارم شمالي إدلب. في تشرين الأول الماضي، اندلعت اشتباكات بين قوى الأمن الداخلي في حارم ومهاجرين فرنسيين، عقب حملة أمنية شنتها وزارة الداخلية، إثر شكاوى من الأهالي، وآخرها خطف فتاة من والدتها فيما نفت "فرقة الغرباء" ذلك. وجرى التوصل لوقف إطلاق نار بين الطرفين في 24 من تشرين الأول الماضي، على أن تسحب الأسلحة الثقيلة من الثكنات في المخيم.
"كتيبة أنصار الإسلام"
أسست جماعة "أنصار الإسلام" فرعًا لها في سوريا عام 2014، بعد أن بايع فرع الجماعة في العراق تنظيم "الدولة" واندمج معه، مقابل رفض مقاتلين آخرين البيعة واختيارهم النشاط في سوريا. ولم يتجاوز عدد أفراد الكتيبة 100 شخص، اعتبارًا من عام 2020، وكان معظمهم من الأكراد، سوريين وعراقيين وإيرانيين، في حين تراوحت الأعداد سابقًا بين 250 و350 شخصًا، وقد عُرف عن الكتيبة الانضباط الشديد وعدم الاختلاط بالمدنيين إلى جانب فقرها الشديد واعتمادها في التمويل على دعم بعض المجموعات المسلحة المحلية والجهادية الأخرى.
"الكتيبة الألبانية"
بدأت الكتيبة نشاطها في آذار 2013 حيث ضمت بين 100 و150 مقاتلًا في صفوفها، جُلّهم من أصول ألبانية، ينحدرون من كوسوفو وألبانيا ومقدونيا الشمالية، ووادي بريشيفا (إقليم جنوب صربيا) وجمهورية البوسنة والهرسك، والجبل الأسود. يقود الكتيبة يساري عبدول (أبو قتادة الألباني) من مواليد أيلول 1976 في سكوبيه عاصمة جمهورية شمال مقدونيا، الذي شارك سابقًا في القتال في البوسنة والهرسك والشيشان، وجرى تعيينه مستشارًا لـ"هيئة تحرير الشام" في تشرين الثاني من عام 2016.
جهاديو الشيشان
يتوزع جهاديو الشيشان ضمن مجموعتين بارزتين هما: "جند الشام": أسسها مسلم الشيشاني عام 2017، واختار العمل منعزلًا عن المجموعات المسلحة الأخرى، إلا أن "الهيئة" عملت على تفكيك مجموعته، وأجبرته على "المرابطة" مع 70 عنصرًا من الكتيبة في تشرين الثاني 2021 ضمن نقاط غرفة عمليات "الفتح المبين" والخروج من مناطق كبانة وجسر الشغور نهائيًا. "أجناد القوقاز": يقود الكتيبة رستم آزهييف، المعروف باسم "عبد الحكيم الشيشاني" مؤسس "أجناد القوقاز" وأحد المحاربين في الشيشان ضد روسيا. بلغ عدد أفراد الكتيبة بين 150 و200 عنصر، وينتشرون في مناطق ريف إدلب الشمالي وغادرت للقتال في أوكرانيا ضد روسيا، على مراحل بين عامي 2022 و2023.
الجهادي الفرنسي عمر أومسين المعروف بـ“عمر ديابي” (francebleu)
"الإمام البخاري"
تضم "كتيبة الإمام البخاري" الأوزبكية 300 عنصر، أسسها "أبو محمد الأوزبكي" عام 2013، ونشطت في ريف إدلب الشمالي وريف حلب، وشاركت في العديد من المعارك في حلب واللاذقية. وكانت تقف على الحياد في جميع المعارك البينية بين المجموعات المسلحة في مناطق المعارضة.
"ملحمة تاكتيكال"
تأسست مجموعة "ملحمة تاكتيكال" في أيار 2016 من قبل مقاتلين ناطقين بالروسية، شيشان وأوزبك وآذر، بهدف تقديم خدمات تطوعية في التدريب العسكري والتكتيكي لفصائل المعارضة. يبلغ عدد أفرادها حوالي 200 عنصر، واتخذت الكتيبة قرار حصر العمل في التدريب العسكري والابتعاد عن الخلافات الفصائلية.
حركة "مهاجري أهل سنة إيران"
أسست في عام 2013 على يد ملا عبد الرحمن فتحي، وانضوت بشكل كامل تحت لواء "هيئة تحرير الشام" في آب 2016 وتقاتل معه بالصفوف الخلفية. بلغ عدد حركة المهاجرين السنة الإيرانيين 150 عنصرًا، وتنحصر مقار المجموعة حاليًا في مناطق جسر الشغور وحارم في ريف إدلب الشمالي الغربي.
تنظيم "حراس الدين"
أُعلن عن تأسيس تنظيم "حراس الدين" (فرع تنظيم القاعدة في سوريا) في شباط 2018، ويُقدّر عدد مقاتلي التنظيم بحوالي 1500 مقاتل، يشكل الأردنيون والمغاربة والتونسيون جزءًا كبيرًا منهم حيث يُقدّر عددهم بـ400 شخص. تعرض التنظيم على مدار عامي 2020 و2022 لحملة تفكيك ممنهجة من قبل "الهيئة"، حيث اعتقلت العشرات من عناصره وقياداته، أبرزهم "أبو عبد الرحمن المكّي". في 29 من كانون الثاني الماضي، أعلن التنظيم في بيان حل نفسه، مرجعًا ذلك القرار إلى سقوط نظام الأسد في 8 من كانون الأول 2024.