الإعلام كقوة تأسيسية: المنظومة الوطنية ودورها الإستراتيجي في بناء الهوية والثقة المجتمعية


هذا الخبر بعنوان "المنظومة الوطنية للإعلام… نموذج إستراتيجي لصناعة الثقة المجتمعية" نشر أولاً على موقع syriahomenews وتم جلبه من مصدره الأصلي بتاريخ ٢٦ كانون الأول ٢٠٢٥.
لا يتحمل موقعنا مضمونه بأي شكل من الأشكال. بإمكانكم الإطلاع على تفاصيل هذا الخبر من خلال مصدره الأصلي.
يتساءل حسين الإبراهيم عن المعنى الحقيقي لوجود منظومة إعلامية وطنية متماسكة تتجاوز مجرد تقديم الخدمات لتصبح مشروعًا إستراتيجيًا. كيف يمكن للإعلام أن يتحول من مجرد ناقل للخبر إلى قوة تأسيسية قادرة على صياغة الهوية ودعم مسيرة التنمية؟ وما هو الدور الفعلي للإعلام عندما يُبنى كمنظومة متكاملة؟ وأين تكمن قوته إذا ما أُعيد تعريفه كرسالة وطنية جامعة لا مجرد سلعة استهلاكية؟
لم يعد الإعلام في عصرنا الحالي مجرد وسيلة لنقل الأخبار أو توفير الترفيه، بل أصبح مكونًا إستراتيجيًا أساسيًا يساهم بفاعلية في تشكيل الهوية الوطنية، وتعزيز الثقة المجتمعية، ودعم جهود التنمية المستدامة. إن أي دولة تطمح إلى النهوض والتقدم تحتاج بالضرورة إلى منظومة إعلامية وطنية متماسكة. هذه المنظومة تشكل إطارًا عامًا للتنسيق والتكامل بين مختلف الوسائل الإعلامية، بحيث تتحول الصحافة والإذاعة والتلفزيون والمنصات الرقمية إلى شبكة موحدة تخدم المجتمع، وتدافع عن قيمه، وتفتح أمامه آفاقًا واسعة للمعرفة والابتكار. فالإعلام الذي يُختزل في كونه مجرد خدمة يفقد قدرته على التأثير العميق، بينما الإعلام الذي يُبنى كمنظومة وطنية يصبح قوة تأسيسية حقيقية قادرة على قيادة التغيير وصياغة ملامح المستقبل.
لقد أصبح الإعلام أداة محورية في تشكيل الهوية الوطنية وحماية التنوع الثقافي. فهو بمثابة المرآة التي تعكس صورة المجتمع بكل تفاصيله، وفي الوقت نفسه يمثل المنصة التي تصوغ رؤيته المستقبلية. عندما يُبنى الإعلام الوطني على أسس واضحة ومبادئ راسخة، فإنه يتحول إلى قوة تربط الأفراد بقيمهم المشتركة، وتمنحهم شعورًا عميقًا بالانتماء، وتدافع عن لغتهم وثقافتهم في مواجهة تحديات العولمة والتشظي الرقمي. يرسخ الإعلام القيم المشتركة ويعزز الانتماء من خلال سرد قصص المجتمع وتاريخه، ويضمن عدم تهميش المكونات الثقافية الصغيرة، بل يعرضها كجزء أصيل من النسيج الوطني المتكامل. كما يفتح فضاءات للنقاش البناء، ويمنح المواطنين فرصة التعبير عن آرائهم بشكل مسؤول، ويسهم في رفع وعي الأجيال الجديدة، ويغرس قيم النقد والتحليل بدلًا من الاستهلاك السلبي للمحتوى.
في فرنسا، لعب الإعلام دورًا محوريًا في حماية اللغة الفرنسية من هيمنة اللغة الإنجليزية عبر سياسات إعلامية صارمة. وفي اليابان، يعكس الإعلام الثقافة المحلية ويعزز قيم الانضباط والعمل الجماعي، ما أسهم بشكل كبير في ترسيخ الهوية الوطنية. يمثل الإعلام أيضًا أداة اقتصادية وتنموية قادرة على تحريك عجلة الاستثمار، ودعم المشاريع الوطنية، وتوسيع الأسواق. وحين يُدار الإعلام برؤية إستراتيجية واضحة، فإنه يتحول إلى قوة إنتاجية فاعلة.
لا يمكن للإعلام أن يعمل كجزر معزولة، بل يحتاج إلى إطار وطني ينسّق بين مختلف وسائله ويضمن تكاملها. فالصحف، والقنوات التلفزيونية، والإذاعات، والمنصات الرقمية، كلها عناصر في شبكة واحدة. وإذا لم تُدار هذه العناصر برؤية موحدة، فإنها تتحول إلى أصوات متنافرة تفقد تأثيرها وقوتها. المنظومة الوطنية للإعلام هي التي تضع قواعد الانسجام بين الرسالة والأهداف، وتحدد الأولويات، وتمنح كل وسيلة دورها المحدد ضمن مشروع وطني جامع. التكامل هنا لا يعني التماثل، بل يعني أن تتوزع الأدوار بشكل يحقق التوازن المطلوب: الإعلام التقليدي يحافظ على المصداقية والعمق، والإعلام الرقمي يضيف السرعة والتفاعل، والإعلام المجتمعي يفتح المجال للمشاركة الشعبية. هذا التنسيق يحوّل الإعلام إلى قوة متماسكة قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، ويمنع التشتت الذي يضعف الثقة ويفقد المجتمع بوصلته.
إن أخطر ما يواجه الإعلام اليوم هو اختزاله في كونه مجرد خدمة تُقدَّم للمستهلك مثل أي سلعة أخرى. هذا التصور يُفرغ الإعلام من جوهره، ويحوّله إلى صناعة ترفيهية أو تجارية بحتة، بينما وظيفته الأصلية أعمق بكثير: أن يكون حاملًا للرسالة، وصانعًا للوعي، ومحرّكًا للنقاش العام. الإعلام الذي يكتفي بالخدمة يظل أسيرًا لمعادلة العرض والطلب، يلهث وراء نسب المشاهدة والإعلانات، ويبتعد عن دوره في المساءلة، أو تثقيف المجتمع، أو حماية القيم المشتركة. أما الإعلام الذي يتبنى الرسالة، فإنه يضع المصلحة الوطنية في المقدمة، ويوازن بين متطلبات السوق وواجباته الأخلاقية، ليصبح قوة فاعلة في التنمية والتغيير. الفرق بين الخدمة والرسالة هو الفرق بين إعلام يستهلك المجتمع، وإعلام يبني المجتمع. الأول يقدّم محتوى سريعًا يرضي اللحظة، والثاني يزرع وعيًا طويل الأمد يهيّئ الأجيال لمواجهة المستقبل. لذلك، فإن أي منظومة وطنية للإعلام لا بدّ أن تحسم هذا التحدي، وتعيد تعريف الإعلام باعتباره مشروعًا وطنيًا يحمل رسالة، لا مجرد خدمة عابرة.
في كتابي “المشهد الرقمي في الإعلام السوري” أفردت محوراً للحديث عن المنظومة الوطنية للإعلام كنموذج مستقبلي لإعلام يكون بمثابة مكون أساسي من مكونات المجتمع. ليس بناء منظومة وطنية للإعلام شعارًا نظريًا، بل هو مشروع يتطلب خطوات عملية واضحة تضمن استمراريته وفاعليته. هذه الخطوات تشكّل الأساس الذي يحوّل الإعلام من قطاع متشظٍ إلى قوة إستراتيجية تخدم المجتمع والدولة. من أهم تلك الخطوات:
وثمة خطوات أخرى لا تقلّ أهمية مثل ربط الإعلام التقليدي بالرقمي ضمن إطار واحد، بحيث تتحول الصحف والقنوات إلى منصات متعددة الوسائط، وتُستثمر التكنولوجيا في تعزيز التفاعل والمشاركة الشعبية. وكذلك تأسيس هيئات أو مجالس وطنية للإعلام، مهمتها وضع الإستراتيجيات العامة، وضمان التنسيق بين مختلف الوسائل، ومتابعة الأداء وفق مؤشرات واضحة. وأخيرًا، فتح المجال أمام الإعلام المجتمعي والمبادرات الشبابية، ليكون المواطن شريكًا فاعلًا في صناعة الرسالة الإعلامية، لا مجرد متلقٍ سلبي.
إن الإعلام الذي يُبنى على أساس منظومة وطنية متماسكة لا يكتفي بنقل الأخبار أو تقديم الخدمات، بل يتحول إلى قوة تأسيسية تعيد صياغة المجتمع وتدعم التنمية وتحصّن الهوية. إن التحديات التي تواجه الدول اليوم ـ من العولمة الرقمية إلى الأزمات الاقتصادية والسياسية ـ لا يمكن مواجهتها بإعلام متشظٍ أو تابع، بل بإعلام يملك رؤية ورسالة، ويعمل ضمن إطار وطني جامع يوازن بين الحرية والمسؤولية، وبين السوق والمصلحة العامة. المنظومة الوطنية للإعلام ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية لأي بلد يسعى إلى النهوض. فهي التي تمنح الإعلام القدرة على أن يكون شريكًا في التنمية، وحارسًا للقيم، وصوتًا للمجتمع في مواجهة التحديات. الإعلام الذي يظل مجرد خدمة سيبقى صدىً لأصوات الآخرين، أما الإعلام الذي يُبنى كمنظومة وطنية متماسكة فسيصبح قوة قادرة على هندسة المستقبل وصناعة الغد. (الوطن 2_وكالات _الحرية)
سياسة
سياسة
سياسة
سياسة