أطفال سوريا في مهب الاستقطاب: كيف تتشكل وعيهم السياسي في ظل الأزمات؟


هذا الخبر بعنوان "أطفال سوريون يرثون الاستقطاب السياسي من الكبار" نشر أولاً على موقع enabbaladi.net وتم جلبه من مصدره الأصلي بتاريخ ٢٨ كانون الأول ٢٠٢٥.
لا يتحمل موقعنا مضمونه بأي شكل من الأشكال. بإمكانكم الإطلاع على تفاصيل هذا الخبر من خلال مصدره الأصلي.
في البيئات التي تشهد أزمات سياسية طويلة الأمد، يتجاوز دور الطفل مجرد التلقي السلبي لما يدور حوله، ليصبح جزءًا فاعلًا في المشهد النفسي والاجتماعي للأزمة. تتسلل السياسة، التي قد تبدو شأنًا خاصًا بالكبار، إلى وعي الأطفال عبر اللغة اليومية، ووسائل الإعلام، والمدرسة، وحتى من خلال الصمت المشحون بالخوف أو الغضب داخل محيط الأسرة. هنا تكمن خطورة ما يُعرف بـ"التربية السياسية غير الواعية"، التي قد تسهم في تشكيل جيل يحمل مواقف حادة ومسبقة قبل أن يمتلك أدوات الفهم النقدي والتحليل.
تروي ميرنا (39 عامًا)، وهي أم لثلاثة أطفال من محافظة حمص، لـ"عنب بلدي" التحديات الحقيقية التي تواجهها في الإجابة عن أسئلة أطفالها منذ سقوط النظام نهاية عام 2024. فقد ازداد الاستقطاب السياسي والطائفي في المجتمع السوري، ما جعل الأطفال يتعرضون يوميًا لمواقف ومفردات تثير فضولهم وربما استغرابهم، ويدفعهم للبحث عن إجابات.
وأضافت ميرنا أنها واجهت مع أطفالها استفسارات حول التغييرات التي طرأت على علم البلاد، والتوقف عن ترديد النشيد السابق في المدرسة، ومحتوى الفعاليات والنشاطات المدرسية. كما طرح الأطفال أسئلة عن مصطلحات مثل "الفلول" و"الجهاديين"، وأغانٍ وتقسيمات تحمل طابعًا طائفيًا، والتي لا يمكن إنكار وصولها إلى مسامعهم، وهم بدورهم يحاولون فهم ما يدور حولهم. تسعى ميرنا باستمرار لتوضيح الصورة لأطفالها وشرح التغييرات الحاصلة، مؤكدة أنها تفعل ذلك دون وصاية أو فرض لمواقفها وقناعاتها عليهم. وتتعامل بحذر شديد مع هذا الموضوع، من خلال ترسيخ مفهوم الاختلاف كحالة صحية، وتنمية مفاهيم المواطنة والعدل والحرية وقبول الآخر.
وترى ميرنا أن الأهل اليوم يتحملون مسؤولية تجاه بعض الممارسات الخاطئة التي ينقلها أطفالهم إلى المدارس، والتي قد يكون مصدرها أحاديث الأهل أنفسهم أو مواقع التواصل الاجتماعي التي يُسمح لهم باستخدامها دون أي رقابة.
من جانبه، يرى خالد (44 عامًا)، وهو مدرّس لغة عربية من مدينة بانياس بريف محافظة طرطوس، أن التوجيه السياسي في عهد النظام السابق كان له دور كبير في ترسيخ العقائدية السياسية. فقد أسهمت القوالب الجاهزة التي كان يتلقاها الطفل منذ المرحلة الابتدائية في تشكيل تصوره السياسي الأحادي، ما ساعد في إنتاج رؤية سياسية واحدة تقوم على الإقصاء والخوف من أي تيار حزبي أو سياسي مغاير لتيار السلطة.
وأوضح خالد أن التربية السياسية يجب أن تترافق بقدر من المسؤولية النفسية والاجتماعية للأسرة والمدرسة. فمن الضروري أن يتمتع الآباء والمعلمون بوعي سياسي كافٍ، ليس فقط من خلال غرس روح الحوار والتسامح لدى الأطفال، بل أيضًا عبر اتباع نماذج سلوكية سياسية سليمة. وبهذا، يصبح الآباء والمعلمون قدوة في طريقة ممارسة سلطتهم، ويتجنبون وسائل إكراه الطفل وإذلاله، حتى لا يستسلم لوسائل القهر التي قد يتعرض لها عندما يكبر، وحتى لا يمارسها هو نفسه على المحيطين به إذا ما تبوأ منصبًا قياديًا.
ويعتبر خالد أن التربية السياسية للأطفال تكون إيجابية إذا اعتمدت على نشر أجواء من الإحساس بالأمن والاطمئنان والحب لديهم، لكي تنعكس لاحقًا على قدرتهم على التعايش والتسامح. ويجب أن يتم ذلك إلى جانب تعزيز مبادئ العدل والحرية والمواطنة من خلال معايشة حقيقية داخل الأسرة والمدرسة، عن طريق استنباط وسائل تشاركية أو رحلات جماعية أو حتى تكليف بوظائف منزلية أو اجتماعية تقوم على مبدأ التعاون مع الغير، وفق ما ذكره لـ"عنب بلدي".
من الناحية النفسية، تبدأ ملامح التربية السياسية في سن مبكرة جدًا، منذ السنوات الأولى من الطفولة (3–5 سنوات)، حين يبدأ الطفل بفهم مفاهيم أولية مثل: القوة، العدل، الظلم، الانتماء، العدو، والخوف، وفق ما أوضحته الاستشارية النفسية الأسرية الدكتورة هبة كمال العرنوس لـ"عنب بلدي".
هذه المفاهيم، بحسب العرنوس، لا تُدرَّس بشكل مباشر، بل تُكتسب عبر: حديث الأهل أمام الطفل، وردود فعلهم تجاه الأخبار، وطريقة وصفهم للأشخاص والجهات، والمشاعر مثل القلق أو الكراهية أو الفخر التي يلاحظها الطفل.
ويرى الباحث الأكاديمي المتخصص في التربية والسكان والتنمية الدكتور ياسر محمد علوش، في حديث إلى "عنب بلدي"، أن التربية السياسية لا تعني الحديث عن الأحزاب أو السلطة، بل تعني تنمية الحس بالعدالة والحوار واحترام الرأي الآخر والقدرة على اتخاذ موقف. وبالتالي، هي ليست تلقينًا لمواقف جاهزة، بل تدريب على التفكير، وليست انتماء لحزب، بل انتماء للكرامة والعدالة.
وتبدأ التربية السياسية، وفق علوش، بشكل غير مباشر منذ الطفولة المبكرة، عبر الملاحظة والتقليد، ثم تتبلور تدريجيًا في مرحلة الطفولة المتوسطة (7–12 سنة) من خلال الحوار والقصص والمواقف اليومية.
وقال علوش إن المسؤولية تقع على عاتق الأسرة أولًا، ثم المدرسة والإعلام، والمجتمع المدني، باعتبارهم يشكّلون البيئة الأساسية التي يتكون فيها وعي الطفل السياسي.
ولفتت الاستشارية النفسية الأسرية إلى أن التربية السياسية غالبًا ما تتم بشكل غير مقصود، وهنا تكمن الخطورة، لأنها تترك آثارًا عميقة وطويلة الأمد.
ذكرت العرنوس أن التربية السياسية السليمة نفسيًا لا تعني تعليم الطفل مواقف سياسية جاهزة، بل بناء عقل قادر على الفهم والتمييز. وهي تقوم على: تعزيز قيم إنسانية عامة مثل العدالة، احترام الاختلاف، الحوار، ونبذ العنف. تعليم الطفل التفكير النقدي لا الاصطفاف. الفصل بين الوطن والسلطة والحزب. احترام حق الطفل في السؤال دون تخويف أو إسكات.
أما التلقين الحزبي أو الأيديولوجي، بحسب العرنوس، فيتميز بـ: تقديم طرف واحد بوصفه الحق المطلق. شيطنة الآخر. استخدام لغة التخوين أو القداسة. ربط الحب والانتماء بشخص أو جماعة أو سلطة.
واعتبرت العرنوس أنه إذا كان هدف التربية هو إنتاج طفل يكرر ولا يفكر، فهي تربية موجهة وخطرة، أما إذا كان الهدف إنتاج طفل يفهم قبل أن يقرر، فهي تربية سليمة.
كما أوضح علوش أن التربية السياسية السليمة: تنمّي القدرة على التفكير النقدي. تعلم الطفل التمييز بين الرأي والمعلومة. تزرع فيه قيم المشاركة والمسؤولية والعدالة. وتُبنى على الأسئلة لا الإجابات الجاهزة.
وأضاف الاختصاصي التربوي أن التربية السياسية تتميز عن التوجيه الحزبي بـ: التربية السياسية تفتح الأفق، أما التوجيه الحزبي فيُغلقه. التربية السياسية تعلم الطفل أن يسأل: لماذا؟ أما التوجيه الحزبي فيلقّنه: هكذا يجب أن تفكر. التربية السياسية تنمّي الانتماء للوطن والإنسانية، أما التوجيه الحزبي فيُختزل في الولاء لجهة واحدة.
ووجه علوش مجموعة من النصائح: لا تُحمّل الطفل مواقف الكبار. لا تستخدمه كناطق باتجاهات وعادات وتقاليد العائلة. شجّعه على الحوار، لا على التبعية. قدّم له نماذج من التاريخ والواقع تُظهر تنوع الآراء.
قالت الاستشارية النفسية الأسرية الدكتورة هبة كمال العرنوس، إن من أخطر ما يتعرض له الطفل نفسيًا هو تسييس وعيه قبل نضجه العقلي والانفعالي. فالإعلام الموجه والمناهج المؤدلجة قد: تخلق خوفًا مزمنًا وقلقًا وجوديًا. تزرع الكراهية والعداء المبكر. تعوق تطوّر التفكير النقدي. تفرض هوية قسرية على الطفل.
وأشارت الاستشارية النفسية الأسرية إلى أنه غالبًا ما يُستعاض عن التربية السياسية القائمة على فهم العلاقات الإنسانية والاجتماعية، بالتوجيه المباشر الذي يختزل الديمقراطية في شعارات، ويختزل الاختلاف في "العدو". في حين أن التنشئة السليمة تعني تعليم الطفل: كيف يختلف دون أن يكره. كيف ينتقد دون أن يخاف. كيف ينتمي دون أن يُلغي الآخر.
أكد اختصاصي التربية والمُجاز في المناهج وتقنيات التعليم الدكتور ياسر علوش، أن: التربية السياسية يجب أن تُعلّم الطفل كيف يفرّق بين المعلومة والدعاية. يجب أن تُعرّفه إلى مفاهيم مثل: الحرية، المسؤولية، التعددية، والحوار. وتستخدم القصص والمسرح والألعاب التفاعلية لتوصيل هذه القيم دون تلقين.
ويرى علوش أن كثيرًا من المناهج العربية تركز على التلقين، وتغفل مهارات التفكير النقدي، أو تقدم مفاهيم سياسية مشوهة أو مؤدلجة، ما يؤدي إلى: ضعف في مهارات الحوار. غياب القدرة على تحليل الأحداث. وانغلاق فكري لدى الطلاب.
وقال علوش إن العديد من القيم المطروحة توجد في المناهج بطريقة مبطنة يخشى المعلم طرحها بجرأة أو الإضاءة عليها، لذلك تنقل إلى الطلاب كمعلومة لا كقيمة.
وبحسب الاختصاصي التربوي، تكون الحلول ضمن المناهج من خلال: إدماج مفاهيم المواطنة والحقوق والواجبات والتنوع والعدالة. وتدريب الطلاب على النقاش والمحاكاة واتخاذ القرار.
أكدت الاستشارية النفسية الأسرية الدكتورة هبة كمال العرنوس أن المناهج الدراسية تلعب دورًا محوريًا في تشكيل وعي الطفل السياسي، سواء سلبًا أو إيجابًا. كما اعتبرت أن المعلم حلقة خطرة وحساسة، باعتبار أن المعلم غير المؤهل نفسيًا قد ينقل قناعاته الشخصية للطفل دون وعي.
وختمت الاستشارية بأن الطفل ليس مشروع مناضل ولا أداة سياسية، بل كائن في طور التكوين النفسي، معتبرة أن المجتمعات التي تُسيّس أطفالها مبكرًا، تدفع لاحقًا ثمن أجيال منقسمة، وغاضبة، وغير قادرة على الحوار.
سياسة
سياسة
سياسة
اقتصاد