الشيباني في موسكو مجددًا: سوريا وروسيا ترسمان ملامح علاقة استراتيجية جديدة


هذا الخبر بعنوان "الشيباني في موسكو ثانية.. من “جس النبض” إلى إعادة رسم العلاقة" نشر أولاً على موقع enabbaladi.net وتم جلبه من مصدره الأصلي بتاريخ ٢٨ كانون الأول ٢٠٢٥.
لا يتحمل موقعنا مضمونه بأي شكل من الأشكال. بإمكانكم الإطلاع على تفاصيل هذا الخبر من خلال مصدره الأصلي.
زار وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، برفقة وزير الدفاع، مرهف أبو قصرة، ومسؤولين من الاستخبارات العامة، العاصمة الروسية موسكو في 23 من كانون الأول الحالي. تأتي هذه الزيارة الرسمية لإجراء مباحثات مع المسؤولين الروس، وهي الثانية من نوعها خلال أقل من خمسة أشهر، في إطار تواصل سوري روسي مستمر. سبق هذه الزيارة وفد من وزارة الخارجية السورية إلى موسكو لإعداد خطة عمل تهدف إلى إعادة تفعيل الخدمات القنصلية والإدارية، ما يشير إلى سعي دمشق لإعادة تنظيم علاقاتها الرسمية مع موسكو بعد المرحلة الانتقالية.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يزور فيها الشيباني موسكو، فقد أجرى في نهاية تموز الماضي محادثات مع نظيره الروسي، سيرغي لافروف، والتقى حينها وزير الدفاع الروسي، أندريه بيلاوسوف، قبل أن يستقبله الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في الكرملين، في لقاء وصفته وزارة الخارجية السورية آنذاك بـ«التاريخي». تُعد الزيارة الأخيرة امتدادًا لهذا المسار، وتأتي بعد نحو شهرين من زيارة الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، إلى موسكو منتصف تشرين الأول الماضي، والتي اعتُبرت محطة مفصلية في إعادة ترتيب العلاقة بين البلدين على مستوى الرئاسة.
خلال مؤتمر صحفي مشترك مع لافروف، أكد الشيباني أن العلاقات السورية الروسية تدخل مرحلة جديدة، معتبرًا أن العام الحالي يمثل بداية الخروج الفعلي من حرب استمرت قرابة 14 عامًا. وأشار إلى تقارب في وجهات النظر بين دمشق وموسكو ضمن المنصات الدولية، بالإضافة إلى نقاشات مستمرة لتطوير هذا التنسيق. ورغم النبرة المتفائلة في الخطاب الرسمي، لم تُعلن موسكو أو دمشق عن اتفاقات نوعية أو تغييرات ملموسة في طبيعة العلاقة، ما يوحي بأن الزيارة تهدف إلى تثبيت التفاهمات القائمة أكثر من كونها إعلانًا عن تحولات كبرى.
تأتي زيارة الشيباني إلى موسكو في وقت تكثف فيه دمشق تحركاتها الدبلوماسية نحو عواصم دولية مختلفة، في محاولة لإعادة التموضع على الخارطة الدولية، مع الحفاظ على العلاقة مع الحليف التقليدي الروسي. تُنظر إلى موسكو كشريك مركزي في ملفات الأمن والدفاع، وفاعل حاضر في إدارة التوازنات الحساسة، خاصة في الجنوب السوري، فضلاً عن دورها في مجلس الأمن. في المقابل، تسعى دمشق للإبقاء على قنوات مفتوحة مع أطراف أخرى، في سياسة تقوم على تنويع العلاقات بدل الارتهان لمحور واحد. تعكس الزيارة، من حيث مستوى التمثيل الرسمي وطبيعة الوفد المرافق، توجهًا سوريًا للتعامل مع موسكو كشريك حاضر في ملفات تتجاوز البعد السياسي، في مرحلة تشهد إعادة تقييم شاملة للعلاقات القائمة، في ظل التحولات الداخلية التي تمر بها سوريا. وبينما أشار الشيباني إلى تطلع دمشق لدور روسي داعم في المرحلة المقبلة، تبقى ملامح هذا الدور وحدوده موضع نقاش، خاصة في ظل تغير موازين القوى الإقليمية والدولية، وتعدد مسارات الانفتاح السوري خلال الأشهر الماضية.
يرى المحلل السياسي والأكاديمي في العلاقات الدولية، محمد الجابي، أن زيارة وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، إلى موسكو برفقة وزير الدفاع، لا يمكن اعتبارها زيارة بروتوكولية أو محطة دبلوماسية عابرة. بل تمثل حلقة متقدمة في مسار سياسي وأمني بدأ منذ أشهر، ويهدف إلى إعادة تعريف موقع الدولة السورية الجديدة داخل الإقليم والنظام الدولي، بعد التحولات الجذرية التي شهدتها البلاد. وأشار الجابي، في حديثه لعنب بلدي، إلى أن أهمية الزيارة لا تنبع فقط من توقيتها أو وجهتها، بل من تركيبة الوفد نفسه، إذ إن حضور وزير الدفاع إلى جانب وزير الخارجية يمنح المحادثات طابعًا استراتيجيًا يتجاوز الإطار الدبلوماسي التقليدي، ويدخل مباشرة في صلب ملفات الأمن وإعادة بناء مؤسسات الدولة، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية.
وبحسب الجابي، تتحرك دمشق اليوم في لحظة انتقالية دقيقة تتقاطع فيها عملية تثبيت الشرعية الخارجية مع مسار إعادة هيكلة الدولة من الداخل. وفي مثل هذه اللحظات، لا تميل الدول إلى بناء تحالفات صلبة أو اصطفافات أيديولوجية، بقدر ما تسعى إلى إدارة توازنات دقيقة مع القوى الفاعلة. ومن هذا المنطلق، تبرز موسكو كعنوان دولي لا يمكن تجاهله، وكقناة ضرورية ضمن سياسة الانفتاح المتعدد التي تعتمدها القيادة السورية الجديدة. وأضاف المحلل السياسي أن زيارة الشيباني لا يمكن فصلها عن سلسلة الزيارات والاتصالات المتكررة بين دمشق وموسكو خلال الأشهر الماضية، ما يعكس انتقال العلاقة من مرحلة جس النبض التي أعقبت سقوط النظام السابق، إلى مرحلة أكثر عمقًا تقوم على إعادة التفاوض حول أسس العلاقة ومحدداتها.
اللافت، وفق الجابي، أن هذا المسار لا يسعى إلى استعادة العلاقة القديمة بصيغتها السابقة، بل إلى صياغة علاقة جديدة أكثر براغماتية، تقوم على تبادل المصالح لا على التبعية السياسية أو العسكرية. وفي قلب هذه العلاقة، يبرز ملف إعادة هيكلة الجيش السوري الجديد وإعادة التسليح كالملف الأهم والأكثر حساسية. شدد الجابي على أن هذا الملف لا يُدار كقضية تقنية بحتة، بل كركيزة أساسية من ركائز السيادة وبناء الدولة، فوجود وزير الدفاع ضمن الوفد يؤكد أن دمشق تنظر إلى موسكو كطرف يمكن الاستفادة من خبرته العسكرية والتقنية، سواء في مجالات التدريب أو التنظيم أو إعادة البناء المؤسسي.
في سياق أوسع، يرى الجابي أن الزيارة تحمل رسائل تتجاوز العلاقات الثنائية، لتلامس الدور الإقليمي لروسيا. فموسكو تُطرح، أو تسعى لأن تُطرح، كعامل موازنة وضامن لأي تفاهمات أمنية محتملة بين دمشق وإسرائيل، ليس بالمعنى التقليدي للوساطة السياسية، بل كجهة قادرة على ضبط إيقاع الاشتباك ومنع الانزلاق نحو التصعيد، عبر قنوات تواصل قائمة ومعادلات ردع متبادلة. واعتبر الجابي أن هذا الدور يمنح دمشق هامشًا ضروريًا لتركيز جهودها على إعادة بناء مؤسساتها في مرحلة انتقالية شديدة الحساسية، كما يمنح موسكو فرصة للحفاظ على حضورها الإقليمي، لا كقوة تفرض الحلول، بل كطرف قادر على إدارة التوازنات المعقدة في المنطقة.
من الزاوية الروسية، لفت الجابي إلى أن الزيارة تندرج ضمن سعي موسكو لإعادة تثبيت موقعها في سوريا ما بعد الأسد، مع إدراكها أن مرحلة النفوذ القائم على الدعم غير المشروط قد انتهت. فالواقع الجديد، وفق الجابي، يفرض شراكات مرنة تقوم على المصالح المتبادلة واحترام التحولات الداخلية، وهو ما يفسر ميل الخطاب الروسي في المرحلة الحالية إلى التكيف مع المعادلة الجديدة، بدل محاولة إعادة إنتاج معادلات الماضي. في ضوء هذه التحركات، تبدو السياسة السورية خلال المرحلة الحالية قائمة على الانفتاح المدروس وتوسيع هامش الخيارات، مع الحفاظ على شراكة استراتيجية مع موسكو، وتثبيت وجود دبلوماسي وعسكري قادر على حماية المصالح الوطنية. زيارة الشيباني إلى موسكو تُترجم هذا النهج عمليًا، فهي ليست مجرد محطة دبلوماسية، بل رسالة واضحة بأن دمشق تسعى لإعادة تعريف موقعها الدولي وإعادة بناء مؤسساتها، ضمن سياق حياد وتوازن محسوب بين القوى الكبرى، يضمن لها المرونة في إدارة علاقاتها، وحماية مصالحها في مرحلة انتقالية حساسة تتطلب الجمع بين الدبلوماسية والأمن وإعادة البناء الداخلي.
سياسة
سياسة
سياسة
سياسة