استبدال العملة في سوريا: مأزق اقتصاد متشظٍ وتضخم مزمن يهدد الاستقرار النقدي


هذا الخبر بعنوان "عملة واحدة في اقتصاد منقسم: مأزق الاستبدال النقدي في سوريا" نشر أولاً على موقع North Press وتم جلبه من مصدره الأصلي بتاريخ ٣٠ كانون الأول ٢٠٢٥.
لا يتحمل موقعنا مضمونه بأي شكل من الأشكال. بإمكانكم الإطلاع على تفاصيل هذا الخبر من خلال مصدره الأصلي.
للتنبؤ بالنتائج المحتملة لعملية استبدال العملة السورية المزمعة مطلع العام القادم، لا بد من مقارنة الشروط العالمية المتعارف عليها لهذه العملية بالواقع السوري الراهن. تُظهر هذه المقارنة أن التحدي لا يكمن في غياب شرط واحد يمكن تداركه، بل في افتقاد منظومة متكاملة من الشروط الأساسية، وفي مقدمتها تشظي المجال الاقتصادي الذي لا يعمل كعامل مستقل، بل كمضاعف لكل اختلال آخر.
أولاً: غياب وحدة المجال الاقتصادي
لا تشكل سوريا اليوم سوقاً اقتصادية واحدة. فالجغرافيا منقسمة، والسلطات متعددة، وأنماط التداول تختلف جذرياً بين المناطق. هذا يعني أن العملة لا تتحرك ضمن فضاء متجانس، بل في مساحات تحكمها قواعدها الضمنية الخاصة. في ظل هذا الواقع، لا توجد آلية موحدة لقبول العملة، ولا سرعة تداول متجانسة، ولا حتى مرجعية سعرية واحدة. هذا التفكك كفيل وحده بإضعاف أي عملية استبدال، لأنه يحول دون تطبيقها بشكل متزامن ومتكافئ، ويجعل نتائجها متباينة منذ اليوم الأول.
ثانياً: عدم تحقق الاستقرار السعري
التضخم في سوريا ليس ظرفياً أو منخفضاً، بل هو مزمن ومتراكم، ويعكس خللاً بنيوياً عميقاً في الاقتصاد وفي تمويل الدولة، رغم تراجعه الطفيف خلال العام الماضي. في بيئة كهذه، لا تُمنح العملة الجديدة فرصة لبناء سمعة مختلفة، إذ تدخل السوق محملة بتوقعات سلبية مسبقة. وتزيد تجزئة السوق من تعقيد المشكلة، لأن التضخم لا يظهر بالشدة نفسها في كل المناطق، مما يؤدي إلى اختلافات إضافية في الأسعار والقوة الشرائية، ويعمق فقدان الثقة بالعملة كوحدة قياس مشتركة.
ثالثاً: محدودية قدرة البنك المركزي على إدارة السياسة النقدية
تُعد الأدوات التقليدية للبنك المركزي، مثل التحكم بسعر الفائدة أو إدارة الكتلة النقدية عبر السوق المصرفية، ضعيفة أو شبه غائبة. في الاقتصاد الموحد، قد يُعوَّض هذا الضعف جزئياً عبر أدوات تنظيمية أو توقعات منسجمة، لكن في اقتصاد مجزّأ، تفقد هذه الأدوات ما تبقى من فعاليتها. فالقرار النقدي لا ينتقل بسلاسة، بل يتكسّر عند حدود الجغرافيا والسيطرة.
رابعاً: عدم تكافؤ قدرة الإنفاذ والتنفيذ
يتطلب استبدال العملة سحباً منظماً للنقد القديم وضخاً متوازناً للجديد، بالإضافة إلى رقابة فعالة على التداول، وهي شروط غير متوافرة بشكل متساوٍ في جميع المناطق. هذا الواقع يفتح الباب أمام استبدال جزئي، وقنوات غير رسمية، وفروقات سعرية مناطقية، ومضاربة تقوم على الجغرافيا بدلاً من القيمة الاقتصادية. ويتجلى هذا الخلل أيضاً في آلية الاستبدال نفسها، خاصة البدء بالفئات الكبيرة (1000 و2000 و5000) مع تأجيل الفئات الصغيرة. هذا الخيار لا يبدو محايداً تقنياً، بل يمكن تفسيره إما كمحاولة لتخفيف العبء اللوجستي في اقتصاد مجزّأ، أو كخيار مرتبط بالفئات الأكثر استخداماً في التخزين والإنفاق العام. وبحسب التجارب المقارنة، نادراً ما أسهم هذا المسار في بناء الثقة أو تحقيق استقرار مستدام، وغالباً ما قرأه السوق كإشارة ضعف إضافية لا كخطوة إصلاحية.
خامساً: غياب الاستقرار المالي العام
يعني العجز المزمن، وضعف الإيرادات، والاعتماد على تمويل العجز بطبع عملة جديدة، أن أي عملة جديدة ستتعرض سريعاً لضغوط تكرار العملية نفسها. وفي ظل التجزئة، يتضاعف هذا الخلل، لأن الدولة لا تملك قاعدة ضريبية موحدة ولا قدرة متجانسة على التحصيل، مما يزيد الاعتماد على أدوات نقدية ضعيفة أصلاً.
إن ما يجعل التجزئة خطيرة في السياق السوري هو أنها لا تعمل كخلفية محايدة، بل كعامل نشط يعيد تشكيل سلوك السوق. ففي سوق منقسم، لا تُختبر العملة الجديدة على أساس قدرتها على حفظ القيمة فحسب، بل على أساس مكان استخدامها، وسهولة تصريفها، والمخاطر المرتبطة بحيازتها. هذا السلوك، وإن كان عقلانياً من منظور الأفراد، إلا أنه مدمر لأي سياسة نقدية تسعى إلى التوحيد.
الخلاصة: الظروف السورية لا تُظهر نقصاً في شرط أو اثنين يمكن معالجتهما تدريجياً، بل غياباً متزامناً لوحدة السوق، والاستقرار السعري، والقدرة المؤسسية، والإنفاذ المتكافئ. التجزؤ هنا ليس تفصيلاً إضافياً، بل الإطار الذي يجعل كل خلل آخر أكثر حدّة. في مثل هذا الواقع، يصبح استبدال العملة خطوة عالية المخاطر، ليس لأنها مستحيلة تقنياً، بل لأنها تُطرح في اقتصاد يفتقر إلى الشروط التي تسمح لها بالعمل كما يُفترض نظرياً. ويتمثل الخطر الأكبر في هذا السياق في تفاقم التضخم.
اقتصاد
اقتصاد
سياسة
سياسة