العملة السورية الجديدة: جدل الرمز والهوية وغياب الإنسان في التصميم


هذا الخبر بعنوان "أيُّ سوريا تعكسها العملة الجديدة؟ أسئلة في الرمز والهوية" نشر أولاً على موقع zamanalwsl وتم جلبه من مصدره الأصلي بتاريخ ٣٠ كانون الأول ٢٠٢٥.
لا يتحمل موقعنا مضمونه بأي شكل من الأشكال. بإمكانكم الإطلاع على تفاصيل هذا الخبر من خلال مصدره الأصلي.
تتجاوز العملة كونها مجرد قطعة ورق محايدة أو أداة للتبادل الاقتصادي، لتصبح خطابًا صامتًا للدولة ورسالة معقدة موجهة للداخل والخارج على حد سواء. إنها تعكس رؤية الدولة لذاتها، وفهمها لتاريخها، والصورة التي ترغب في ترسيخها بوعي مواطنيها. لذا، فإن تحليل أي عملة جديدة يجب ألا يقتصر على جماليات التصميم أو حداثة الطباعة، بل يتعداها إلى مساءلة الرمز ودلالاته، وما يستحضره أو يتجاوزه من الذاكرة الإنسانية والتاريخ.
ومع ذلك، يبقى المعنى الأهم هو القيمة الاقتصادية للعملة في حياة الناس اليومية وقدرتها الشرائية، والتي نأمل أن تكون أفضل من قيمتها الفنية والرمزية. فقد أثبت التاريخ أن العملات لا تُنقذ بالتصميم، وأن الزخرفة لا ترمم اقتصادًا، فالامتحان الحقيقي لأي نقد يكمن في أثره المعيشي لا في صورته البصرية. لكن هذا الإدراك الواقعي لا يلغي حقنا في التفكير النقدي بالرمز، لأنه يظل عنصرًا فاعلًا في تشكيل الوعي العام، حتى في أشد لحظات الانهيار الاقتصادي.
ما يثير الانتباه في تصميم العملة الجديدة هو اعتمادها شبه الكامل على رموز طبيعية عامة مثل النباتات والثمار والمحاصيل. هذه الرموز جميلة بحد ذاتها، ولا تستفز أحدًا، ولا تحرج خطابًا، ولا تفتح أسئلة صدامية، ويمكن أن تكون عملة لدول عدة تشترك في هذه العناصر الطبيعية. إلا أن هذا "الحياد الجمالي" يطرح سؤالًا أعمق: هل هو تبسيط مقصود لطمأنة الجميع، أم افتقار إلى رؤية رمزية ناضجة، أم ميل واعٍ أو غير واعٍ إلى تحييد المعنى الحضاري في أحد أهم رموز السيادة؟
فالطبيعة، حين تُفصل عن الإنسان، تتحول إلى مشهد صامت. فالزيتون والقمح والقطن والتوت، رغم حضورها في الأرض السورية، ليست رموزًا سورية خالصة، ولا تشكل مركزية حضارية خاصة بسوريا، بل تنتشر في جغرافيات عديدة، وبعضها لم تكن سوريا أصل نشأته التاريخية. عند هذه النقطة، يصبح السؤال مشروعًا: على أي أساس يتم تقزيم الرمز السوري في العملة، وتحويله من رمز حضاري مركزي إلى علامة طبيعية عامة لا تقول الكثير عن الإنسان الذي صنع التاريخ على هذه الأرض؟
المفارقة تكمن في أن المشكلة ليست في اختيار الطبيعة، بل في تغييب الإنسان. فالإنسان السوري هنا غائب، ليس كصورة فحسب، بل كفاعل تاريخي. وكأن العملة تقول: هذه أرض خصبة، لكنها لا تذكر من زرعها، ولا من نسج قماشها، ولا من حرثها، ولا من حوّل خامها إلى حضارة. بينما التاريخ، كما يعلمنا ابن خلدون، ليس عمرانًا ماديًا فحسب، بل هو فعل إنساني متراكم، تنتجه الأيدي والعقول والقيم معًا.
كان بالإمكان للرمز أن يتجاوز النبات إلى ما هو أعمق دون أن يكون صداميًا أو إيديولوجيًا. كان يمكن، على سبيل المثال، استدعاء حائك نول البروكار، الذي يُعد من أغلى وأقدم أقمشة العالم، إلى جانب التوت، ليس بوصفه قماشًا فخمًا، بل كذاكرة صناعة إنسانية ضاربة في التاريخ، حملت اسم سوريا إلى قصور العالم. وكان يمكن أن يظهر الفلاح السوري، لا القمح المجرد، وهو يحمل منجله الأول في التاريخ، شاهدًا على حضارة الزراعة ودور سوريا الإنساني فيها. كان يمكن لكافة الرموز المستخدمة أن تربط بين اليد والعمل، بين الإنسان والأرض، بين التاريخ والمعيش اليومي، دون الحاجة إلى شعارات أو خطابات مباشرة.
في السابق، ربطت العملة السورية رموزها بالآثار، وهذا، على ما فيه من ملاحظات، كان يقول بوضوح: هنا حضارة. أما اليوم، فكان يمكن الانتقال خطوة أبعد، من الحجر إلى الإنسان، من الأثر الصامت إلى الفعل الحي، من الماضي المجمد إلى التاريخ المتحرك. فالحضارات لا تقوم بالآثار وحدها، بل بالناس الذين بنوها، وحموها، وورثوها، ثم دفعوا أثمان بقائها.
ليست هذه قراءة متحيزة، ولا حكمًا نهائيًا، بل محاولة هادئة لطرح أسئلة ضرورية حول معنى الرمز في زمن مأزوم حضاريًا. فالعملة، في النهاية، مرآة. وإذا عكست حيادًا مفرطًا، أو خوفًا من المعنى، أو تبسيطًا يفرغ الرمز من مركزه الإنساني، فإن من حقنا أن نتساءل لا أن نُتهم. نعم، الأولوية القصوى أن تستعيد العملة قيمتها الاقتصادية، وأن تعود أداة استقرار لا عبئًا إضافيًا على الناس. لكن بالتوازي، لا يقل أهمية أن تُستعاد قيمتها الرمزية بوصفها حاملة لهوية، لا مجرد ورق ملون. فسوريا ليست مشهدًا طبيعيًا فقط، ولا أرضًا صامتة، بل تجربة إنسانية كثيفة، وحين يغيب الإنسان عن العملة، يبقى السؤال مفتوحًا: أي صورة نريد أن نثبتها في الوعي، وأي تاريخ نختار أن نرويه بصمت؟
أيمن قاسم الرفاعي - زمان الوصل
اقتصاد
سياسة
سياسة
سياسة