رانيا حكمت صقر: في أزقة دمشق القديمة، يتجول السوريون بين البيوت المتعبة بالماضي، متأملين بقايا نقوش على باب خشبي، ويبتسمون. يبدو الباب وكأنه يحاول التمسك بما تبقى من روحه، تماماً كما يحاول السوريون اليوم استعادة ما فقدوه.
يقول الباحث محمد الفياض: "هذا التراث ليس حجراً ولا نقشاً، إنه نحن، ماضينا الذي يقود مستقبلنا. بعد سنوات الوجع، صار التراث الشعبي أكثر من مجرد ذاكرة، أصبح بوصلة تشير دائماً نحو الهوية الوطنية، ورمزاً قادراً على جمع الناس كما تجمع الأم أبناءها المتباعدين."
ويروي الفياض لـ "الثورة السورية" كيف يمكن لهذه الذاكرة الحية أن تنهض من جديد، لكن حديثه يبدو كاعتراف شخص عاش التراث لا كباحث فقط، بل كابن لبيئة تخشى على نفسها من النسيان.
أن نعرف أنفسنا
يرى الفياض أن رحلة إنقاذ التراث تبدأ بتحديد ماهيته وبيئاته، ثم بوضع قوانين واضحة تحميه من التشتت. فالقانون هو السور الذي يحمي ذاكرة البلاد من الضياع، ويمنحها فرصة للتماهي مع العصر دون فقدان أصالته. ويؤكد أن التراث سيبقى مجرد حكاية إن لم يُدعم بعمل حقيقي، لذلك يحدد ثلاث ركائز أساسية: الدعم المادي من خلال تمويل المشاريع الصغيرة التي تُحيي الحِرَف والعادات، لتعود الورش والدكاكين القديمة نابضة من جديد؛ والدعم المعنوي بتكريم المبدعين وحَمَلة التراث، وإقامة فعاليات تحول الذاكرة إلى احتفال جماعي بالحياة؛ بالإضافة إلى الدعم المستدام عبر تأهيل الأماكن الأثرية وتحويلها إلى قرى تراثية تعيش فيها الحِرَف كما كانت، ويزورها الناس لا كمعارض جامدة، بل كحياة تتحرك.
ويضيف خطوة يراها ضرورية، وهي توحيد الجهات المشرفة داخل هيئة وطنية تضع خططاً طويلة الأمد، فلا يبقى التراث مشتتاً بين مؤسسات بلا تنسيق. ثم يبتسم وهو يتحدث عن الحاجة إلى "أفكار خلاقة تعيد ثقة الناس بأن تراثهم ليس ماضياً انتهى بل مستقبل يستحق الاستثمار".
الذاكرة بلا ورق تُنسى
يشير الفياض إلى ضرورة التوثيق والتصنيف والحماية، فالأغاني التي تغنيها الجدات، والحِرف التي يورثها الآباء، والتطريز والأزياء والقصص، كلها معرضة للنسيان إن لم تُكتب وتُصوَّر وتُحفظ. ويذكر مؤسسات مثل المؤسسة العامة للبريد كمثال على جهات يمكنها أن تساهم بإصدار مواد توثيقية تحفظ الملموس وغير الملموس.
التراث يجمع السوريين
يؤكد الفياض أن تنوع التراث السوري هو وحدة موزعة على أشكال جميلة، فحين تُسأل الجدة في القامشلي عن زينتها، وتُسأل امرأة من الساحل عن أهازيج موسم الزيتون، وتُسأل عائلة من درعا عن أطباقها التراثية، تختلف التفاصيل، لكن الروح واحدة. بقي هذا التراث -بحسب الفياض- خيطاً رفيعاً يشد السوريين نحو بعضهم، يمنحهم مساحة للذكريات المشتركة، ويخلق أملاً يمكن البناء عليه.
ويؤمن الفياض أن الابتكار في دعم التراث فرصة ذهبية للتنمية الشاملة، فعندما تستثمر الحكومة في التراث، فهي تستثمر في الناس، وفي قدرتهم على التلاقي من جديد. والتراث كما يصفه جسر يعبر فوق الانقسام، وذاكرة تعيد ترتيب المجتمع، وحنين يفتح باب المستقبل بثقة.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الثورة