في أعقاب انسحاب العثمانيين عام 1918، وفي خضم فراغ سياسي شامل، ظهرت شخصيات عشائرية لعبت أدوارًا محورية في تنظيم شؤون الحياة العامة. ومن بين هؤلاء، برز الحاج فاضل العبود، وهو زعيم من دير الزور، الذي أسس أول حكومة محلية مستقلة في منطقة الشرق السوري. لم يكن حكمه مجرد إدارة للعشائر، بل شكّل نموذجًا أوليًا لسلطة مدنية تحترم الأعراف وتفرض الأمن.
من هو الحاج فاضل العبود؟
وُلد الحاج فاضل العبود عام 1872 في دير الزور، في بيئة عشائرية ذات تأثير كبير. ورث الزعامة عن والده عبود الحسن، وعلى الرغم من عدم حصوله على تعليم نظامي، فقد تميز بذكاء سياسي وحسن إدارة. عمل في مجال التجارة، وأقام علاقات مع تجار من حلب وحماة والأناضول. لعب لاحقًا دورًا بارزًا في مقاومة الاحتلال الفرنسي، وتعرض للاعتقال والنفي إلى جسر الشغور، وذلك لدعمه ثورات العشائر، وخاصة ثورة "البوخابور".
الحكومة الأولى – 1918
مع انسحاب العثمانيين في 6 تشرين الثاني/نوفمبر 1918، شهدت دير الزور حالة من الفوضى، وسط مخاوف من هجمات العشائر. بادر الحاج فاضل، الذي كان حينها رئيسًا لبلدية المدينة، إلى تشكيل حكومة محلية، ودعا شيوخ العشائر إلى المبايعة، فاستجابوا لدعوته. استمرت الحكومة حتى وصول الشريف ناصر بن علي (ابن عم فيصل) إلى دير الزور في 1 كانون الأول/ديسمبر، ثم مرعي باشا الملاح، حيث أُلحقت المدينة بالحكومة المركزية في دمشق.
الحكومة الثانية – 1920
بعد معركة ميسلون واحتلال الفرنسيين لسوريا في 24 تموز/يوليو 1920، عاد الفراغ والفلتان، فقام الحاج فاضل بتشكيل حكومته الثانية. وعلى الرغم من قلة الإمكانيات، نجحت الحكومة في حماية السكان، واستمرت حتى 23 تشرين الثاني/نوفمبر، حين تم حلّها من قبل سلطات الاحتلال.
أبرز إنجازات الحكومتين:
- فرض الأمن ومنع الفوضى، دون تسجيل أي حالات قتل أو سرقة.
- الحيلولة دون عمليات انتقام بعد انسحاب العثمانيين.
- دفع رواتب الموظفين على الرغم من قلة الموارد.
- التنسيق مع العشائر لضبط الأمن في الريف والمدينة.
- تمثيل دير الزور في "المؤتمر السوري العام" عام 1919، ودعم تنصيب فيصل ملكًا على سوريا والعراق.
دلالة الحكم العشائري
لم تكن تجربة الحاج فاضل حكمًا عشائريًا تقليديًا، بل كانت سلطة مدنية قائمة على الأعراف، وفي الوقت نفسه أقرب إلى مفهوم الدولة. وأكدت التجربة أن العشائر، حين توضع أمام مسؤولية وطنية، قادرة على إنتاج سلطة رشيدة، لا فوضى.
وفاته
توفي الحاج فاضل العبود عام 1936 في دير الزور، تاركًا إرثًا من الحكم المحلي المنظَّم، وتجربة فريدة في زمن الانهيار.