الأحد, 27 يوليو 2025 02:16 PM

الطب البديل في سوريا: حاجة ملحة في ظل غياب التنظيم ورقابة الجودة

الطب البديل في سوريا: حاجة ملحة في ظل غياب التنظيم ورقابة الجودة

ريف دمشق-سانا: في خضم الأزمات الاقتصادية والصحية التي تعاني منها سوريا منذ أكثر من عقد، استعاد الطب البديل مكانة مرموقة في حياة السوريين، ليس فقط كخيار علاجي، بل كجزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية والطبية المتأصلة في التراث الشعبي. يكشف هذا التحقيق الاستقصائي عن الواقع الخفي لمهنة تتداخل فيها الضرورة مع الموروث، وتمتزج فيها الخبرة الشعبية بالعلم الغائب، وسط غياب ملحوظ للتنظيم الرسمي والرقابة العلمية.

واقع ميداني: فوضى الممارسة تكشف نفسها

خلال جولات ميدانية في ريف دمشق، لاحظ فريق التحقيق انتشارًا واسعًا لمراكز العلاج بالأعشاب، والحجامة، والطاقة، يديرها أفراد لا يحملون أي شهادات طبية أو تراخيص رسمية. يكتفي بعضهم بخبرة متوارثة أو دورات تدريبية قصيرة، بينما يروج آخرون لخلطات مجهولة المصدر، دون أي إشراف علمي أو رقابة صحية. في أحد الأحياء الشعبية، عُثر على مركز صغير يديره شاب في العشرينيات من عمره، يصف نفسه بـ "خبير الأعشاب"، ويقدم وصفات لعلاج السكري، والضغط، والربو، دون أي سجل طبي للمرضى أو معرفة بتفاعلات الأعشاب مع الأدوية الكيميائية. وعند الاستفسار عن مصدر الأعشاب، أفاد بأنها "محلية ومجربة"، دون تقديم أي توثيق أو تحليل مخبري.

إقبال متزايد رغم المخاطر المحتملة

تشير تقديرات مصادر محلية إلى أن أكثر من 60% من سكان المناطق الريفية يلجؤون إلى الطب البديل بشكل جزئي أو كامل، وذلك بسبب ارتفاع أسعار الأدوية أو انقطاعها. تشكل النساء نسبة كبيرة من العاملين في هذا المجال، خاصة في تصنيع الكريمات، والزيوت، والصابون الطبيعي، دون أي إشراف مخبري أو ترخيص صناعي. ومع ذلك، لا يخلو هذا الإقبال من المخاطر، حيث وثق التحقيق حالات تسمم ناتجة عن استخدام أعشاب غير مطابقة للمواصفات، وحالات أخرى تفاقمت فيها أمراض مزمنة بسبب الاعتماد على وصفات شعبية دون تشخيص طبي. في إحدى الحالات، أصيبت طفلة بحروق جلدية نتيجة استخدام مرهم عشبي غير معروف المصدر لعلاج الأكزيما.

فراغ تشريعي يمهد الطريق للفوضى

لا توجد حتى الآن هيئة رسمية تنظم مهنة الطب البديل في سوريا، ولا يوجد تصنيف واضح للمعالجين أو المراكز العاملة في هذا المجال. هذا الفراغ التشريعي يفتح الباب أمام ممارسات غير علمية، ويعرض المرضى لمخاطر محتملة، دون توفير حماية قانونية أو صحية. في حديث خاص لـ "سانا"، أكد الصيدلاني عبد الوهاب عبلا من ريف دمشق أن غياب الرقابة أدى إلى افتقار العديد من المعالجين للخبرة اللازمة، مما تسبب في حالات تسمم أو تفاقم للأمراض. وأشار إلى أن بعض الأعشاب قد تتداخل مع الأدوية الكيميائية أو تسبب حساسية، مما يستدعي إشرافًا علميًا صارمًا.

الأعشاب السورية: كنز دفين ينتظر الاستثمار

تزخر سوريا بتنوع نباتي غني، مما يجعلها قادرة على إنتاج أعشاب طبية عالية الجودة. ومع ذلك، فإن غياب البحث العلمي وعدم وجود مختبرات متخصصة يحول هذا المورد الطبيعي إلى سوق عشوائي يفتقر إلى المعايير والمواصفات. يؤكد المعالج الشعبي "أبو نزار"، الذي يعمل في منطقة التل، أن الأعشاب السورية تعتبر من الأغنى عالميًا، ويستخدمها لعلاج أمراض مثل السكري، والقولون، والأكزيما، والربو. لكنه يشدد على أهمية التشخيص الصحيح، وجودة الأعشاب، والتعاون مع أطباء متخصصين لضمان سلامة العلاج.

بين العلاج الحقيقي والشعوذة: أين يكمن الفرق؟

لا يزال الخلط بين الطب الشعبي والشعوذة شائعًا في المجتمع السوري. فبين من يصف عشبة مناسبة لحالة مرضية، ومن يقرأ على المريض أو يصف خلطات مجهولة المصدر، تضيع الثقة ويزداد الخوف من المضاعفات. في إحدى الحالات التي رصدها التحقيق، لجأت سيدة إلى معالج يدعي القدرة على "إبطال السحر" باستخدام الأعشاب، فدفعت مبالغ كبيرة مقابل وصفات غير فعالة، مما أدى إلى تفاقم حالتها النفسية والجسدية.

الطب التكميلي: فرصة للتكامل أم صراع؟

يرى الطبيب جهاد شحرور، المختص في الطب التكميلي، أنه لا يوجد فرق جوهري بين الطب البديل والتكميلي، بل يمكن دمجهما مع الطب الحديث لتحقيق نتائج أفضل، بشرط وجود إشراف علمي. لكنه يحذر من غياب الدليل العلمي، ويطالب بدمج الطب الشعبي في إطار أكاديمي يضمن السلامة والفعالية. من جهته، يؤكد الدكتور باسل أبو عباس، اختصاصي أمراض الأذن والأنف والحنجرة، أن الطب البديل ليس علمًا يستند إلى دليل، وقد يكون خطرًا على الصحة العامة إذا لم يكن لدى المعالج الخبرة الكافية بالأعشاب الطبية.

توصيات: نحو تنظيم علمي وآمن

  • إنشاء هيئة وطنية لتنظيم الطب البديل ومنح تراخيص للمراكز والمعالجين.
  • إدراج الطب الشعبي ضمن مناهج كليات الطب والصيدلة.
  • فتح دورات تدريبية بإشراف مختصين لتأهيل العاملين في هذا المجال.
  • تشجيع البحث العلمي في الأعشاب الطبية السورية.
  • تعزيز التعاون بين المعالجين الشعبيين والأطباء والصيادلة.

خلاصة: بين الحاجة والهوية، يبقى الطب البديل في سوريا مجالًا خصبًا للتطوير، لكنه يحتاج إلى تنظيم صارم، ورؤية علمية، تضمن سلامة المرضى وتحول التراث إلى علم نافع يخدم الصحة العامة.

مشاركة المقال: