الثلاثاء, 11 نوفمبر 2025 05:02 PM

تداعيات رفع الدعم عن الكهرباء في سوريا: وهم الاشتراكية وتحديات الواقع

تداعيات رفع الدعم عن الكهرباء في سوريا: وهم الاشتراكية وتحديات الواقع

ابتداءً من مطلع هذا الشهر، وبعد مضاعفة ضريبة استهلاك الكهرباء بأكثر من أربعين ضعفاً، سيقف السوريون على حقيقة الوهم الذي صاحب انهيار المنظومة السابقة، بكل ما انطوت عليه من تناقضات شكلت جوهر حياتهم لأكثر من ستين عاماً. هذه الخطوة، التي تمثلت في رفع الدعم عن الكهرباء بهذه الطريقة، لا تعكس فقط حجم التخلص من بقايا الهياكل الاشتراكية للنظام السابق، بل أيضاً مدى الجهل بالجغرافيا الاجتماعية للبلاد، والتي كانت على مدى عقود تعبر عن المنابت الطبقية لأغلبية السوريين.

في المرحلة التي سبقت وصول «البعث» إلى السلطة، كانت البلاد تحت تأثير توجهات رأسمالية لا تولي اهتماماً كبيراً للملكية العامة لوسائل الإنتاج، أو لقضايا أصبحت محورية في حياة السوريين لاحقاً، مثل دعم السلع والخدمات الأساسية، ودور الدولة التدخلي في الطبابة والاستشفاء والتعليم والنقل والاتصالات.

الأجيال التي لم تعاصر الاشتراكية ابتداءً من عام 1963، عانت كثيراً من غياب الدولة عن هذه المجالات، بدءاً من مسألة الملكية التي سرعت باتجاه الاشتراكية، مروراً بالكلفة الباهظة للمواد الأساسية والخدمات، وصولاً إلى عدم شمول الفئات الفقيرة بمزايا التعليم والطبابة، لأنها لم تكن قد أممت بعد، وبالتالي كانت مقتصرة على الفئات القادرة على الإنفاق عليها، مثل الإقطاعيين والأعيان والتجار وغيرهم.

الدعاية المناهضة للتأميمات التي حصلت على مرحلتين لاحقاً، لم تركز على مسألة الدعم، لأن هذا الشكل من الدعاية كان سيحرم الفئات المناهضة للحكم الاشتراكي من القدرة على الاستقطاب الاجتماعي، حتى ضمن الطبقات التي فقدت امتيازاتها مع صعود الاشتراكية إلى الحكم في كل من سوريا ومصر. طوال فترة حكم «البعث»، كانت المعارضة له ضمن الفئات التي فقدت امتيازاتها مترافقة مع نمط إنتاج لم يستثن أي فئة أو شريحة اجتماعية من الدعم المقدم للسلع والخدمات الأساسية، بما في ذلك طبقة التجار والمصرفيين، التي كانت تعارض إجراءات التأميم والإصلاح الزراعي وإلغاء الملكيات الكبرى.

هذا جعل استفادة هؤلاء، «المتساوية مع سواهم» من الدعم، تتعارض مع التوجه العام الذي يقودونه لمعارضة الإجراءات الاشتراكية، وهو ما أوقعهم في تناقض لم يكن ممكناً الخروج منه إلا بتبني السردية الليبرالية التي تتمحور حول غياب الديمقراطية والتعددية السياسية، بدلاً من الاستمرار في خطاب متناقض وغير شعبي حول مساوئ الاشتراكية.

العامل الأساسي الذي أفضى إلى هذا الصراع، هو مساس الحكام الجدد، الآتين من خلفيات بعثية وناصرية، بالملكية الخاصة للأراضي والعقارات والمصانع، التي كانت تتبع في معظمها لإقطاعيين ووجهاء وعائلات سياسية كان لها نفوذ كبير في الحقبة التي أعقبت الاستقلال. حصل ذلك على مرحلتين: الأولى، أثناء حكم الوحدة، حيث كان نطاق التأميمات محدوداً، والثانية، بعد انتهاء حكم الانفصال ومجيء البعث إلى السلطة في عام 1963. لم يقتصر الأمر مع «البعث» على توسيع نطاق التأميم، بل شمل كذلك إجراءات لم يجرؤ حكم الوحدة على اتخاذها، أبرزها حزمة الدعم الحكومي التي كانت الواجهة الفعلية للسياسات الجديدة، كونها كانت الأكثر تماسّاً مع الفئات الشعبية صاحبة المصلحة في حصول التنمية.

الدعم المقدم هنا، والمستوحى من النموذج الاشتراكي السوفياتي، لا يقتصر على تأمين السلطة كلفة المواد الأساسية، بل يتعداه إلى دعم الخدمات المقدمة من الدولة، بحيث لا تصل إلى الفئات الاجتماعية المختلفة إلا بسعر رمزي أو متناسب مع الدخل. وذلك في تعارض كامل مع نموذج الفوترة المطبق في الدول الرأسمالية، والذي لا تتحمل الدولة بموجبه أي مسؤولية عن الخدمات المقدمة للناس، إلا كهيكل عام شكلي.

استحضار النموذج الرأسمالي في تعويم الخدمات المقدمة من الدولة، وتركها لمنطق العرض والطلب الخاص بالسوق، يغفل وجود أحزاب سياسية في الغرب تتبنى الفكر الاشتراكي وتسائل الحكومات حين يحصل إفراط في اللبرلة الاقتصادية ورفع الدعم عن الخدمات والسلع الأساسية. بالإضافة إلى الافتقاد هنا إلى آلية المساءلة عن السياسات الضريبية، مقارنة بالغرب الذي يجري التمثّل به شكلياً فحسب، وبعد إفراغ نموذجه الضريبي من مضمونه السياسي، ثمّة أيضاً غياب التماثل في بنية الدخل، والتي تتيح هناك تغطية جزء يسير من المعدّل القياسي للزيادات الضريبية.

الافتقار إلى كل ذلك، قياساً إلى النموذج الرأسمالي، يجعل من هذا المعدّل القياسي في الزيادات الضريبية ليس مجرد قفزة في الهواء، بل أيضاً نكوصاً عن البنية الاقتصادية الضريبية السابقة التي كانت أفضل، حتى في ذروة الحرب. هكذا، تتعامل السلطة مع بنية اقتصادية اجتماعية أقرب إلى النموذج العالمثالثي الذي لا تصلح معه الوصفات النيوليبرالية الجاهزة، وكأنها حقل تجارب لسياسات اقتصادية لا نعلم إن كانت تميز بين «الاقتصاد الحر» كما يطبق بشكل مقيد في دول مثل تركيا وقطر، ونظيره الجاري تطبيقه هنا، من دون وجود سوابق له حتى في أعتى الاقتصادات الرأسمالية التي تتبنى النموذج النيوليبرالي.

عدم التفريق بهذا المعنى بين تعويم كل الأصول الاقتصادية للدولة، من العملة الوطنية إلى الخدمات الأساسية، ووضع قيود تنظم عمليات الخصخصة وإعادة الهيكلة نفسها، ينطوي على جهل كامل حتى بمنطق التعويم وتحرير الاقتصاد، إذ غالباً ما تلجأ الدول، لدى إجراء عمليات تحرير للسلع والخدمات والعملة، إلى ضبطها بمحددات لا يمكن بدونها الحفاظ على البنية الأساسية للنظام الاقتصادي، حتى الرأسمالي منه.

أبرز تلك المحددات، بالإضافة إلى حصر التداولات والتدفقات النقدية بالعملة الوطنية، الإبقاء على معدّل وسطي للدعم، بحيث لا يترك استهلاك المواد والخدمات الأساسية لمنطق العرض والطلب، كأي سلعة أخرى في السوق، لأن ذلك سيتسبب بتقويض الطلب العام على السلع والخدمات نفسه، عبر جعله يستهلك ضريبياً، وبمعدّل قياسي، لا يترك مجالاً لحدوث أي نمو في الاقتصاد، حتى على مستوى الإنفاق الاستهلاكي وحده.

ما سيحصل، على الأرجح، انطلاقاً من هذا التحرير القياسي للخدمات الأساسية، وعلى رأسها الكهرباء التي تعتبر المحرك الرئيسي لأي اقتصاد، هو عملية ركود غير مسبوقة في تاريخ الاقتصاد السوري، إذ في غياب تغطية فعلية من الدخل الخاص بالأفراد لهذه الزيادة القياسية، لن يكون بمقدور أحد من السوريين، حتى المغتربين منهم والذين يساهمون بقسط وافر في تغطية أعباء المعيشة هنا، إنفاق ليرة واحدة خارج إطار الاستهلاك الضريبي القياسي، لمجمل الإنفاق الحاصل، سواء في الداخل حيث الأجر المحدود جداً مع كل الزيادات الحاصلة، أو حتى في الخارج حيث لم يعد نموذج التحويلات قادراً على إعالة العائلات الباقية في البلاد أكثر مما فعل حتى الآن.

بقلم: ورد كاسوحة

مشاركة المقال: